الخميس، 30 أبريل 2009

منذ القدم عندما بدأ البشر بالعيش في تجمعات وعلى رقع جغرافية محدودة المساحات, كان هاجسهم الأمني هو همهم الأول , لذا عملت على إنشاء حدود آمنة وقوية من أجل الدفاع عن نفسها وعن كيانها وذاتها من أي أخطار أو اطماع خارجية , فلهذا السبب قامت تلك الكيانات ببناء الأسوار والقلاع, وسور الصين العظيم خير دليل على ذلك
إن مفهوم الأمن القومي كمصطلح سياسي حديث قد تعرض إلى تغيرات جذرية بسبب التأثيرات التاريخية والسياسية على الساحة الدولية, فهو كمصطلح مفاهيمي ليس له تعريفاً محدداً, بل تعريفات مختلفة في عالم السياسة بإختلاف البيئات والمدارس والظروف والمراحل التاريخية .
فمن وجهة نظر دائرة المعارف البريطانية, فلأمن القومي هو( حماية الأمة من القهر على يد قوة أجنبية )
ومن وجهة نظر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسينجر أن الأمن القومي ( أي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ نفسه في البقاء ) .
يقول بادي بوزان أحد أبرز المختصين في الدرسات الأمنية بأن ( العمل على تحرر من التهديد ) .
وكما يذهب روبرت مكنامارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ورئيس البنك الدولي بعد ذلك, بأن الأمن القومي هو ( التنمية) والإكتفاء بهذا بدون الإستطراد في سرد الأراء والتعريفات الأخرى .
ونرى في الوقت نفسه بأن اختلاف الأنظمة الدولية السائدة يؤثر تأثيراً بالغاً في مفهوم الأمن القومي وتوجهاته, ففي الفترة التي سادت فيها التعددية القطبية وامتدت منذ مطلع القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كان الإهتمام بالأمن القومي مرتبطاً بعملية توزيع مناطق النفوذ والصراع على المواد الأولية بين الدول الكبرى في النظام الدولي انذاك, غير أن الإهتمام بالأمن تطور وتغير عندما ساد نظام الثنائية القطبية بعد عام 1945 م . ومع انهيار المعسكر الإشتراكي في نهاية الثمانيات ظهر نوع من الأمن الكوني الذي تكييفه وتهيمن عليه وتتلاعب بمقدراته دولة واحدة,ألا وهي الولايات المتحدة الأمركية مع تصاعد الدور الصيني والأوربي, ويبدو أنه بعد الأزمة المالية العالمية أخذت التوجهات الأمنية منحى آخر, وفي الوقت نفسه فإن مجال الأمن القومي يختلف من دولة إلى أخرى, فالدول العظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا... يكاد يكون العالم كله مجالاً لأمنها القومي, فأصبحت الأساطيل البحرية والقواعد العسكرية الأمركية موجودة في كل بقع الأرض, ومن ضمن هذه المناطق الشرق الأوسط التي غدت مجلاً استراتيجياً وحيوياً جداً للأمن القومي العالمي والأمريكي بشكل خاص, وهو تطبيق لمقولة, من يسيطر على الشرق الأوسط, يسطر على العالم .
ونظراً لوجود ثلثي المخزون العالمي للطاقة 66% من النفط 25 % من الغاز الطبيعي, ولما كانت الطاقة هي العمود الفقري للاقتصاد الحديث وخاصة لإقتصاد الولايات المتحدة الأمركية بوصفها أكبر مستهلك عالمي لموارد الطاقة 34 % ولهذا السبب يقع على عاتقها القيام بالدور الريادي في تأمين وحماية أمن الطاقة, وفي النهاية تستطيع الخروج بنتيجة مفادها أن الأمن القومي لأي كيان سياسي أودولة أو مجتمع يرتكز على مرتكزات ثلاث ألا وهي:
1-الأمن الداخلي ويشمل الأمن السياسي ,الاجتماعي, الاقتصادي, الثقافي...العسكري .
2-الأمن الاقليمي: ويتضمن علاقة الكيان أو المجتمع مع الدول المجاورة أو الأقليم الجغرافي, وذلك بالعمل على خلق حالة من التوازن الإستراتيجي فيما بينها .
3-الأمن الدولي: وهي علاقة الدولة مع باقي دول العالم.
بعد توضيحنا للمفهوم الحقيقي للأمن القومي بشكل عام, وذلك كمصطلح سياسي جديد استراتيجي مهم لوجود وحماية المصالح الحيوية لأية دولة أوكيان سياسي لأي شعب من شعوب العالم .
إن هذه المقدمة كانت ضرورية من أجل اتخاذها كمعيار توضيحي عند مجيئنا إلى تسليط الضوء في طبيعة الأمن القومي على الواقع الكردستاني ولكي نكون موضوعيين في طرحنا هذا, لابد من استعراض منحى التطور التاريخي عبر البعد الزمني للتاريخ الكردستاني سلباً وإيجاباً .
فمن المعلوم أن الشعب الكردي قد مرَّ بمراحل ومحطات تاريخية وسياسية عصيبة ومصيرية ابتداء من تقسيم كردستان بعد الحرب العالمية الأولى وعدم حصول الكورد على استقلالهم بموجب البنود (62.63.64) من معاهدة سيفر, مروراً بتأسيس وسقوط جمهورية مهاباد 1946م نتيجة للحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة حتى نهايته في أوائل التسعينيات .
حيث قام الكورد في تلك الفترة بتأسيس أحزابها السياسية ذات البرامج العصرية والصيغ اليسارية والتي ساعدت على تطور وتبلور الفكر القومي الكوردي, إلا أن الشعب الكوردي لم يتمكن من الحصول على حقوقه القومية نتيجة لجملة من العوامل الدولية والاقليمية والذاتية .
ودخلت القضية الكوردية مرحلة جديدة عندما قامت الدول الغربية (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء المنطقة الآمنة المعروفة ((بالملاذ الآمن)) في شمال خط 36 وتبعته قرار مجلس الأمن الدولي ذو الرقم 688 في 5 نيسان 1991 , الذي عزز الموقف الكوردي دولياً مما دفعت القضية الكوردية إلى الساحة الدولية بقوة .
وبرأي الشخصي أعتبر هذا التاريخ هو ميلاد الأرضية الخصبة للأمن القومي الكوردستاني, حيث كان واجباً على القيادة الكردستانية التفكير جدياً بالعمل على بناء مشروع الأمن القومي الكوردستاني كضرورة إستراتيجية ومهمة أساسية لوجودها وتطورها نظراً لتوفر العناصر الضرورية لذلك, الا وهي , السيادة ,الجغرافية(الأرض) والشرط المادي والعامل الدولي حتى وإن كانت في شكلها البدائي .
كما أنه وبموجب قرار مجلس الأمن رقم 986 حصل الإقليم على13% من عائدات النفط العراقية بالإيضافة إلى المساعدات الدولية, وواردات المعابر الحدودية (إبراهيم الخليل) على سبيل المثال, إلا أن قيادة الإقليم وللأسف الشديد لم تستغل الفرصة للإستفادة من تلك المكاسب, بل أخذت الأمور منحاً آخر توجت بالحرب الأهلية أو الإقتتال الأخوي عام 1994م
وبعد ذلك بسنوات قليلة حدثت تغيرات راديكالية على الساحة الدولية والإقليمية وحتى الكوردستانية, بعد حادثة ضرب أبراج التجارة العالمي في 11أيلول 2001م والتدخل الأمريكي العسكري لاسقاط نظام الطاغية صدام حسين عام 2003م والذي كان يشكل أكبر تهديد على الوجود القومي الكوردي, وتلتها تغييرات جذرية في بنية الدولة العراقية, حيث حصل الكورد على جزءِ كبير من حقوقهم القومية والتي انتهت بالإعتراف الدستوري بإقليم كردستان الفدرالي, وتبعتها انتخابات برلمانية عامة توجت بحكومة موحدة في 2006م .
فإذاأمعّنا النظر إلى الوضع الجيوبوليتيكي لإقليم كردستان داخل المحيط الإقليمي, نرى بوضوح وجود قوتين متداخلتين ومتناقضتين, فمن ناحية نرى دول الجوار المتمثلة بتركيا وايران وسوريا متعاونة فيما بينها ومتفقة على أن وجود إقليم كردستان إنما يشكل خطراً حقيقياً على أمنهم القومي, ولهذا يعملون بكل مالديهم من طاقة وإمكانيات لإفشال هذه التجربة الكوردية الفتية بإقليم كردستان من خلال تحريض ودعم التركمان من قبل تركيا وتحريض العرب السنة من قبل سوريا وقضية كركوك وحزب العمال الكوردستاني, وما هي إلا حجج وذرائع وأوراق ضغط مختلفة لتهديد أمن ووجود الإقليم, حتى التواجد الإقتصادي والتجاري التركي بهذه الكثافة (1900 شركة) إنما يشكل بحد ذاته تهديداً خطيراً على أمن واستقرار الإقليم, حيث أن باستطاعة تركيا تجميد نشاط شركاتها تلك عند الضرورة, وعندئذ ستصاب الحياة الاقتصادية والتجارية للإقليم بالشلل .
أما الجانب الأخر المتناقض, هي القوة الإيجابية المتمثلة بالبعد الجغرافي والبشري الديمغرافي الكوردستاني داخل تلك الدول .
وكما هو معلوم, فمسألة الأمن القومي لأي كيانٍ سياسي, تتعرض لعوامل غير ثابتة, كالعامل السياسي والدولي, حيث أنها تتغير بحسب المصالح والظروف, وهناك أيضاً عوامل ثابتة استرتيجية, كالجغرافية السياسية. فالبعد الكوردستاني يعتبر أهم العناصر وأحد المرتكزات الأساسية في مسألة أمن الإقليم واستقراره .
إنها مسألة تثير الدهشة والإستغراب لعدم استغلال قيادة الإقليم لعامل الجغرافية السياسية وخاصة في هذه المرحلة التاريخية المصيرية لأمن ومستقبل الإقليم بالرغم من توفر جميع الإمكانيات اللازمة لذلك, فميزانية الإقليم لعام 2008م قد تجاوزت 9 مليارات دولار أمريكي, ما عدا عائدات المعابر الحدودية والإنتاج المحلي للنفط والمساعدات الدولية, وبالمقارنة فقد تجاوز ميزانية الإقليم على ميزانية الدولة السورية ذات العشرين مليون نسمة!.. ولن نفشي سراً, أن النظام السوري من أجل أمنها تستخدم أوراق ضغطٍ من فليبين مروراً بالسودان وصولاً الى افغانستان وباكستان .
وكما بيينا أعلاه, أنه بالرغم من توفر هذه الميزانية الضخمة للإقليم, إلا أنها وحتى الآن لم تحرك ساكناً على المستوى الأمن القومي في محيطها الإقليمي, وكما هو معروف ايضاً فأن عناصر الأمن القومي الداخلي ((السياسي , الإجتماعي, الإقتصادي, الثقافي....)) في تلكؤ وابطاء . فعلى سبيل المثال لا الحصر, مسألة الثقافة كأحد عناصر الأمن الوطني الهامة, فإن ميزانية وزارة الأوقاف في حكومة الإقليم تعادل ضعف ميزانية وزارة الثقافة .
وأخيراً فإن مسألة الأمن القومي من المنظور الاستراتيجي والجيوسياسي يعتمد اعتماداً كبيراً على الإمتداد الجغرافي أو بما تسمى بالحقول الأمنية.
بالإيضافة إلى الروابط العرقية والثقافية القوية والتي بمجملها تخلق فيما بينها حقلاَ أمنياً مشتركاً .
وأخيراً فإن القضية الكردية هي واحدة مع اختلاف الحلول في كل جزءِ حيث تتأثر فيما بينها حتماً, فتقدمها في أحد أجزائها تؤثر إيجاباً على الأخرى والعكس صحيح
بلجيكا 28-04-2009

ليست هناك تعليقات: