الثلاثاء، 25 أغسطس 2009

بين مبادرة أردوغان وخطّة أوجلاّن
الاعلان حتى الآن عبارة عن «مبادرة» يتمّ تداولها همساً في الساحة التركية، من أجل وضع «حلّ جذري» للخلافات مع الأكراد، و«خطّة سلام» هي بمثابة «خارطة طريق» للمصالحة مع تركيا، أعدّها عبد الله أوجلاّن في سجنه، تتضمّن ثمانية مقترحات رئيسية، والكلام يتزايد على تحوّل تاريخي كبير حيال القضيّة الكرديّة سوف تظهر ملامحه في الأسابيع المقبلة. ما قصّة هذا التحوّل؟
رغم عدم إعلان أنقرة رسمياً عن تفاصيل المبادرة، فإن بعض عناوين الخطّة ظهر في خطاب رجب طيب أردوغان الشهير في ديار بكر (٢٣ تموز/يوليو ٢٠٠٥) عاصمة كردستان تركيا، حين اعترف بأن الدولة التركية ارتكبت أخطاء في حق الأكراد آن الأوان لتصحيحها، في إطار مفهوم جديد للهويّة القوميّة يستند الى الحقيقة القائلة بأن تركيا متعدّدة الأعراف والأديان.
وفي تقدير بعض الأوساط أن المؤسّسة العسكرية التركية لا تزال تتحفّظ على هذا الطرح، ويمكن أن تتّخذ من هذه المبادرة ذريعة لاستهداف حزب العدالة والتنمية، والأمر يتوقّف الى حد كبير على مدى نجاح الحزب في الحصول على مساندة الرأي العام التركي.
والوقائع التي يتمّ تداولها حتى الآن تتضمّن النقاط الآتية:
< ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: ناقش بعض الأكاديميين والصحفيين والمفكّرين الأتراك المسألة الكردية والحلول الممكنة لها، في مقرّ أكاديمية الشرطة التركية في أنقرة، وتمّت المناقشات بإشراف وزير الداخلية التركي بيسير أتالاي.
< ٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: قام الشاهد السرّي الثالث في قضية سيمال تيموزو، قائد كتيبة جندرمة محافظة كيساري، المتّهم بالتوّرط في الاغتيالات وعضو التنظيمات الكردية السرّيّة المسلّحة، بسحب شهادته أمام المحكمة، ووصف الخبراء هذا الاجراء بأنه صفقة تهدف الى تمهيد المسرح التركي لقبول المبادرة التركية وتمريرها، طالما أن الاستمرار في القضية سيترتّب عليه توريط زعماء حزب المجتمع الديمقراطي، إضافة إلى إثبات ارتباطاته السرّيّة مع حزب العمل الكردستاني، وهو أمر لن تترتّب عليه محاكمة زعماء المجتمع الديمقراطي، وإنما قيام المحكمة الدستورية العليا بحلّه وحظر نشاطه، إضافة إلى طرد نوابه من البرلمان، الأمر الذي سيضعف أغلبية التحالف الذي يقوده حزب العدالة والتنمية من جهة، ويعزّز من الجهة الأخرى موقف القوى المعارضة داخل البرلمان التركي، وعلى وجه الخصوص حزب الشعب الجمهوري.
< ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: بدأت أنقرة تواجه بعض الضغوط الداخلية على خلفية محاكمة عناصر شبكة أرغيناكون، وضغوط خارجية بوساطة رئيس جمهورية شمال قبرص محمد علي طلعت الذي عقد لقاء مع ألكسندر داونار مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى قبرص، وأيضاً بوساطة الجنرال فوغ راسموسين (الدانماركي) الذي سبق أن سعت تركيا الى عرقلة تولّيه منصب أمين عام حلف الناتو، لكنه تولاّه بعد زيارة الرئيس أوباما الأخيرة أنقرة. وقد طالب راسموسين فور تولّيه منصبه، تركيا، بضرورة القيام بالمزيد من الاجراءات لبناء الثقة في الداخل والخارج، وكذلك فإن حلّ المسألة الكردية هو أحد الشروط المطلوبة بوساطة المفوضية الأوروبية.
< ٤ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: أعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أنه يرى أن هناك فارقاً كبيراً بين حزب المجتمع الديمقراطي، وحزب العمال الكردستاني. وأضاف أنه سيلتقي رسمياً ممثّلي حزب المجتمع الديمقراطي للتفاهم حول المسألة الكردية.
< ٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد رجب طيب أردوغان اجتماعاً رسمياً في مقرّ البرلمان التركي، مع ممثّلي حزب المجتمع الديمقراطي، لمناقشة مشروع المبادرة التركية التي أشرفت على إعدادها الحكومة التركية.
< ٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد أردوغان لقاء مع رئيس الوزراء الروسي بوتين، ورئيس الوزراء الإيطالي سلفيو بيرلوسكوني، وفي الوقت نفسه عقد الرئيس التركي عبد الله غول لقاء مع رئيس الوزراء العراقي السابق إبراهيم الجعفري، لمناقشة الموقف العراقي، وفي الوقت ذاته كذلك عقد السفير الأميركي في تركيا جيمس جيفري لقاء مع أعضاء حزب المجتمع الديمقراطي لمناقشة محتوى المبادرة التركية.
< ٧ آب (أغسطس) ٢٠٠٩: عقد أردوغان اجتماعاً مطوّلاً مع الوزراء من أعضاء مجلس الأمن القومي التركي لمناقشة المبادرة التركية.
وتأسيساً على ذلك، جاءت ردود الأفعال التركية الأولى رافضة المبادرة، من حزب الشعب الجمهوري والحزب القومي التركي اللذين أكّدا أنهما سيعملان من أجل الآتي:
ـ إسقاط المبادرة داخل البرلمان التركي.
ـ شن حملة سياسية ضد المبادرة، باعتبارها تشكّل خطراً يعرّض وحدة الأمّة التركية للانقسام.
وحتى الآن، تتلاقى المؤسّسة العسكرية أو بعض أطرافها على الأقلّ، على رفض هذا التوجّه، الى جانب حزب العمل القومي والحزب الجمهوري. لكن رجب طيب أردوغان يصرّ على دمج الأكراد بصورة كاملة في بنية الدولة التركية، ووضع حد للعنف الكردي الذي يثير بدوره عنفاً تركياً. وفي هذا السياق، يقول عدد من الخبراء في العلاقات التركية ـ الكرديّة، إن تركيا رصدت في الفترة الأخيرة تطوّرات ميدانية في مناطق التماسّ بين إقليم كردستان العراق ومناطق الوسط العراقي، تنذر باحتمالات تفجّر حرب أهليّة جديدة وشيكة بين العرب والأكراد، بعدما بلغت الخلافات بين أربيل وبغداد ذروة جديدة من التوتّر، ومن شأن العودة الى الحرب الأهليّة إحداث بلبلة حقيقية في الداخل التركي وفي منطقة كردستان تركيا بصورة خاصّة. ويبدو أن التحرّك التركي الجديد يأخذ في الاعتبار مجموعة عوامل ضاغطة لعلّ أبرزها:
< عامل الانسحاب الأميركي المحتمل جدّاً من العراق، الذي سوف يبلور مشهداً سياسياً وأمنيّاً متحرّكاً، على أساس توازن القوى بين شيعة الجنوب، سنّة الوسط، وأكراد الشمال.
< عامل النزعة المركزية الكردية والتشدّد الإتنو ثقافي والإتنو ـ غرافي لأكراد الشمال العراقي لجهة المضي قدماً في مشروع إقليم كردستان.
< عامل صراع السلطة ـ الثروة، ومخاوف أن يتفاقم تأثيره، بما يؤدّي إلى الحرب الأهلية العراقية، على غرار نماذج الحروب الأهلية التي سبق أن اندلعت في أفغانستان بعد خروج القوّات السوفياتية، وفي أنغولا بعد خروج القوّات البرتغالية، وما شابهها من الحروب الأهلية التي اندلعت بعد خروج القوّات الأجنبية منها.
تقول المعلومات إن منطقة كركوك ـ الموصل تشهد حالياً ما يمكن وصفه بترتيبات تمهيد المسرح لخوض جولة الصراع المسلّح الحاسمة، ومن أبرز المؤشّرات الدالة على تزايد عمليات التعبئة السلبية الفاعلة في المنطقة يمكن التوقّف عند:
ـ التمركز المكثّف لقوّات البشمركة الكردية.
ـ الظهور المتزايد للجماعات المسلّحة الشيعية والسنّيّة.
ـ ظهور الأقلّيّات الإتنو ـ طائفية المتواتر في المنطقة وعلى وجه الخصوص الأشوريين.
ـ تزايد التحالفات بين المجموعات الرافضة لمشروع الضم لإقليم كردستان.
ـ انتشار السلاح بكمّيّات واسعة.
ـ تزايد الاغتيالات وأعمال العنف السياسي الإتنو ـ ثقافي والإتنو ـ غرافي والإتنو-طائفي، بما يفيد وجود عمليات حرب سرّيّة متبادلة بين الأطراف المتصارعة في المنطقة.
إضافة الى ذلك، جاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية والرئاسية الكردستانية، لتؤكّد بقوّة أن أكراد الشمال يرغبون في توجّهات مسعود البرزاني وحلفائه! وعلى خلفية تشدّد مواقف الأطراف برزت في مجرى الوقائع عملية ديبلوماسية وقائية تضمّنت الآتي:
< التحرّكات المكثّفة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التي سعى من خلالها إلى كسب دعم واشنطن وأنقرة.
< التحرّكات المكثّفة لرموز الادارة الأميركية، وعلى وجه الخصوص جو بايدن نائب الرئيس الأميركي وصاحب نظرية تقسيم العراق، وروبرت غيتز وزير الدفاع الأميركي.
< تصريحات مسعود البرزاني المتشدّدة إزاء ضم كركوك والموصل.
في مواكبة هذه التطوّرات، تبيّن على الصعيد الميداني أن السنّة عزّزوا ظهورهم المسلّح في كركوك والموصل، وفي المقابل نشرت أربيل قوّات البشمركة في المنطقتين، وتولّت بغداد بدورها نشر قوى عسكرية بشكل مكثّف، حرصاً على توازن القوى مع البشمركة. في الوقت نفسه، تحدّثت معلومات محدودة التداول عن أن بعض الأطراف الكرديّة في كركوك والموصل، تسعى الى تشكيل ميليشيا خاصة منفصلة عن البشمركة، إذا ما تخلّت أربيل عن مشروع ضم كركوك. ويؤكّد مراسل «واشنطن بوست» الأميركية أن التعبئة العسكرية متواصلة في المنطقة، وهي لا تقتصر على أرتال الدبّابات والمدرّعات التابعة للبشمركة، وأرتال الدبّابات العراقية، ويضيف: دعونا ننتظر لنرى ما إذا كانت القوّات الأميركية سوف تلعب دور المتفرّج الخبيث.
ربع قرن
نعود الى النزاع لنقول إن الحكومة التركية تحاول، على ما يبدو، استباق خطّة يستعدّ عبد الله أوجلاّن الزعيم الكردي السجين لإطلاقها من سجنه، في ذكرى انطلاقة عمليات حزب العمّال الكردستاني الذي يعمل من أجل حكم ذاتي موسّع للأكراد في جنوب شرق تركيا، وقد سقط في صراعه مع السلطات التركية أكثر من ٤٠ ألف قتيل حتى الآن. مصادر الحزب سرّبت ثماني نقاط من خطّة أوجلاّن (التي كان منتظراً إعلانها في ١٥ آب / أغسطس الجاري)، هي الآتية:
< إعلان هدنة دائمة متبادلة بين تركيا ومنظّمة حزب العمّال الكردستاني.
< إعداد دستور ديمقراطي جديد يأخذ في الاعتبار حقوق الأكراد وحرّيّاتهم.
< تشكيل لجنة تقصّي حقائق بشأن الجرائم الغامضة التي ارتكبت في حق الأكراد في جنوب شرق الأناضول، ولم يتمّ التوصّل الى تحديد منفّذيها.
< منح حق التدريس باللغة الكرديّة والسماح بفتح مدارس كرديّة.
< منح عناصر حزب العمّال الكردستاني من الذين غادروا معسكراتهم حق العمل السياسي.
< إلغاء الدولة الكرديّة نظام حرّاس القرى، ومعظمهم من المواطنين الأكراد الذين يقاتلون الى جانب الدولة التركية والجيش التركي ضد عناصر حزب العمّال الكردستاني.
< تشكيل «لجنة حكماء» في تركيا تعمل على تقديم مساهمات في مجال حلّ المشكلة الكرديّة.
< تشريع قانون يفسح في المجال أمام الكوادر المسلّحة لمنظّمة «حزب العمال الكردستاني» نبذ السلاح وترك المعسكرات على أن لا يندرج هذا القانون ضمن مسمّيات «العفو العام».
هل يجرؤ أردوغان على الأخذ بهذه المقترحات؟
كل شيء يدلّ على أن أسس الحوار التركي ـ الكردي المرتقب بدأت تتبلور، وأن الحلّ متى أقرّ سوف يكون على المديين المتوسّط والبعيد، وهو يندرج في سلسلة إصلاحات توسّع حقوق الأقلّيّة الكردية، بضغط أوروبي، وقد ترجمت قبل أشهر بإطلاق أول قناة كرديّة تعمل على مدار الساعة في تركيا. وفي تقرير لصحيفة «حرّيّات» التركية، أن إحدى الخطوات المرتقبة هي إعادة نحو عشرة آلاف كردي فرّوا كلاجئين في تسعينيّات القرن الفائت، الى مخيّم مخمور في شمال العراق، حيث معقل تنظيم حزب العمّال الكردستاني.
لكن ما هي أهمّ المحطّات في المشكلة الكرديّة؟
١٥١٤ ـ ٢٠٠٩
مراحل المشكلة الكرديّة
بدأت المشكلة الكرديّة بصورة واضحة في العصر الحديث عند اصطدام الدولتين الصفوية والعثمانية عام (١٥١٤م) في معركة جالديران التي كانت كبيرة وغير حاسمة، كان من نتائجها تقسيم كردستان عملياً بين الدولتين الصفوية والعثمانية.
كانت كردستان قبل سنة (١٥١٤م) تسود فيها إمارات مستقلة مشغولة بتنظيم شؤونها الداخلية، لكن سوء معاملة الشاه إسماعيل الصفوي إضافةً إلى الاختلاف المذهبي أدّيا إلى انضمام أكثرية الإمارات إلى جانب الدولة العثمانية فضلاً عن جهود العلاّمة ملا إدريس البدليسي الذي لعب دوراً كبيراً في استمالة الكرد إلى جانب الدولة العثمانية، وجاءت المعركة المذكورة لتضع أغلبية أراضي كردستان تحت سيطرة العثمانيين.
تقسيم كردستان
في عام (١٥١٥م) قام العلامة إدريس، بعد تفويضه من قبل السلطان العثماني، بعقد اتفاقية مع الأمراء الكرد، يتضمن اعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان وبقاء الحكم الوراثي فيها ومساندة الأستانة لها عند تعرّضها للغزو أو الاعتداء مقابل أن تدفع الإمارات الكرديّة رسومات سنوية كرمز لتبعيتها للدولة العثمانية وأن تشارك إلى جانب الجيش العثماني في أية معارك تخوضها الإمبراطورية إضافة إلى ذكر اسم السلطان والدعاء له من على المنابر في خطبة الجمعة.
تضمن هذا الاتفاق اعترافاً من الدولة العثمانية بالسلطات الكرديّة، وهذا الأمر ليس شيئاً هيّناً، حيث يقدم اعترافاً واضحاً بوجود المشكلة الكرديّة، يقتضي حلها، حتى لو كان الحل وقتياً‍‍!!
وفي عام (١٥٥٥م) عقدت الدولتان الصفوية والعثمانية اتفاقية ثنائية عرفت بـ«أماسيا» وهي أول معاهدة رسمية بين الدولتين، وتم بموجبها تكريس تقسيم كردستان رسمياً وفاق وثيقة رسمية نصت على تعيين الحدود بين الدولتين، وخاصة في مناطق شهرزور، وقارص، وبايزيد (وهي مناطق كرديّة صرفة).
وتبعت تلك المعاهدة، معاهدات واتفاقيات لاحقة منها: معاهدة «زهاو» أو تنظيم الحدود عام (١٦٣٩م) بين الشاه عباس والسلطان مراد الرابع، وتم التأكيد على معاهدة أماسيا بالنسبة لتعيين الحدود، وهذا زاد من تعميق المشكلة الكرديّة، ثم عقدت بعد ذلك معاهدات أخرى مثل «أرضروم الأولى» (١٨٢٣م) و«أرضروم الثانية» (١٨٤٧م) واتفاقية طهران (١٩١١م) واتفاقية تخطيط الحدود بين الدولتين: الإيرانية والعثمانية عام (١٩١٣م) في الأستانة، وكذلك بروتوكول الأستانة في العام نفسه.
وكرّست جميع هذه المعاهدات تقسيم كردستان وشعبها بشكل مجحف، وبسبب ذلك تعقدت المشكلة الكرديّة يوماً بعد آخر، ولا سيما بعد بدء انتشار الأفكار القومية في الشرق، وبالأخص منذ بداية القرن التاسع عشر، حيث بدأت الدول الأوروبية تحتك بكردستان عن طريق الرحالة الأجانب والإرساليات التبشيرية، وكذلك عن طريق بعض القنصليات وأهمها البريطانية والروسية والفرنسية ثم الأميركية.
ومارست كل هذه الجهات أدواراً مهمةً في تحريض العشائر الكرديّة ضد الدولة العثمانية خاصةً، ثم الإيرانية، لكي يأخذوا الامتيازات، أو يزداد نفوذهم في الدولة العثمانية خاصة. وبالرغم من هذا، فإن الدولتين العثمانية والإيرانية، لم تتمكّنا من بسط سيطرتهما على كردستان لأسباب عدة، منها طبوغرافية كردستان المعقدة، ودفاع الكرد عن أراضيهم ببسالة.
تدويل القضية
ويمكننا القول إن اشتداد الصراع الدولي في الشرق، وخاصة بين القوتين البريطانية والروسية أثّر بشكل سلبي في مستقبل الشعب الكردي، وأخرج المشكلة الكرديّة من الطابع الإقليمي إلى الطابع الدولي، كما يتضح من خلال النقاط الآتية:
أولاً: الاتصال المبكر بالكرد من قبل روسيا، ثم بريطانيا، حيث كانت الحكومة الروسية شديدة الاهتمام بأوضاع البلدان والشعوب المتاخمة لحدودها، ونظرت الحكومة البريطانية بقلق إلى المطامح الروسية خوفاً من أن يمتد الروس إلى بلاد ما بين النهرين. وكانت شركة الهند الشرقية من أهم بؤر التجسس في المنطقة، كما كانت هناك محاولات فرنسية للتغلغل في كردستان عن طريق الإرساليات التبشيرية.
ويمكن القول إن أميركا كانت موجودة في المنطقة على عكس ما كان شائعاً من تطبيقها لمبدأ «مونرو» الذي يؤكد على عدم التورط في المشاكل السياسية خارج أميركا.
ثانياً: محاولات الكرد أنفسهم التقرب من الأجانب، وخاصة البريطانيين في بداية القرن العشرين، حيث كانت جهود الديبلوماسي الكردي شريف باشا واضحة في هذا المجال، إذ حاول الاتصال بالإنكليز عام (١٩١٤) لكي يعرض خدماته، لكن الحكومة البريطانية لم تستجب له، وبحلول عام (١٩١٨) وعند احتلال بريطانيا العراق طلبت وزارة الخارجية البريطانية من السفير برسي كوكس أن يلتقي بشريف باشا في مدينة مرسيليا الفرنسية للاستماع إلى أقواله فقط !
ثالثاً: اتفاقية سايكس ـ بيكو عام (١٩١٦) حيث اجتمع وزراء الخارجية الروسية والبريطانية والفرنسية، ودارت بينهم مباحثات سرية حول الترتيبات المقبلة للشرق الأوسط، بعد أن أصبحت هزيمة ألمانيا وحليفتها الدولة العثمانية وشيكة، وتضمنت الاتفاقية تقسيم تركة الدولة العثمانية، وبما أن القسم الأكبر من كردستان كان تحت السيطرة العثمانية، فقد شملها التقسيم، وهذا الوضع الجديد عمق بشكل فعّال من تعقيد المشكلة الكرديّة، وأخرجها من الطابع الإقليمي إلى الطابع الدولي، حيث تعد معاهدة سايكس ـ بيكو أول معاهدة دولية اشتركت فيها ثلاث دول كبرى، وحطّمت الآمال الكرديّة في تحقيق حقهم المشروع في تقرير المصير.
ما بعد الحرب
برزت إمكانية حل المشكلة الكرديّة إلى الوجود لأول مرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولعل سببها إيجاد منطقة عازلة بين أتراك الأناضول والأقوام التي تتكلم اللغة التركية في آسيا الوسطى والقفقاس وبصورة خاصة في أذربيجان.
وقد تحرك الكرد وبذلوا جهوداً مضنية لإيصال صوتهم إلى مؤتمر الصلح في باريس عام (١٩١٩) على أمل أن ينالوا حقوقهم المشروعة، ولا سيما بعد أن صرح رئيس الولايات المتحدة الأميركية ويدرو ويلسن بحق الشعوب في تقرير مصيرها في بنوده الأربعة عشر المشهورة، ولم يكن للكرد كيان سياسي مستقل حتى يشارك وفدهم رسمياً في ذلك المؤتمر، شأنهم شأن القوميات والشعوب المضطهدة الأخرى، ولذلك خوّل الشعب الكردي من خلال العشائر والجمعيات السياسية شريف باشا لتمثيلهم والمطالبة بالمطالب الكرديّة المشروعة.
وأصدر الحلفاء بعد استكمال تحضيراتهم للمؤتمر قراراً في شهر كانون الثاني (يناير) ١٩١٩ نص على ما يأتي: «… إن الحلفاء والدول التابعة لهم قد اتفقوا على أن أرمينيا وبلاد الرافدين وكردستان وفلسطين والبلاد العربية يجب انتزاعها بكاملها من الإمبراطورية العثمانية».
وانطلاقاً من هذا القرار قدم الممثل الكردي شريف باشا مذكرتين مع خارطتين لكردستان إلى المؤتمر، إحداهما بتاريخ (٢١/٣/١٩١٩م) والأخرى يوم (١/٣/١٩٢٠). كما طلب من القائمين على شؤون المؤتمر تشكيل لجنة دولية تتولّى تخطيط الحدود بموجب مبدأ القوميات، لتصبح كردستان المناطق التي تسكن فيها الغالبية الكرديّة، وإضافة إلى ذلك فقد جاء في المذكرة الأولى «إن تجزئة كردستان لا يخدم السلم في الشرق...».
كما جاء في المذكرة الثانية «إن الترك يتظاهرون علناً بأنهم مع المطالب الكرديّة، وإنهم متسامحون معهم، لكن الواقع لا يدل على ذلك مطلقاً...» كما طالب شريف باشا رسمياً من رئيس المؤتمر جورج كليمنصو أن يمارس نفوذه مع حكومة الأستانة لمنع اضطهاد الشعب الكردي، وجاء في رسالته إلى رئيس المؤتمر: إنه منذ أن تسلمت جماعة الاتحاد والترقي السلطة فإن جميع الذين يحملون آمال الحرية القومية قد تعرضوا للاضطهاد المستمر.. وإنه من الواجب الإنساني في المجلس الأعلى أن يمنع إراقة الدماء مجدّداً، وإن السبيل لضمان السلم في كردستان هو التخلي عن مشروع تقسيم هذه البلاد (أي كردستان)..
ودل كل ذلك على أن المشكلة الكرديّة تقدمت خطوة كبيرة إلى الأمام في أعقاب الحرب. وما تصريح كليمنصو عندما أعلن على الملأ في مؤتمر الصلح إلا إحدى العلامات حيث قال «إن الحكومة التركية ليست قادرة وكفؤة لإدارة الأمم الأخرى، لذلك لا يوثق بها ولا يجوز أن تعاد إلى سيطرة الأتراك قومية عانت مظالم الأتراك واستبدادهم».
وعندما رأى شريف باشا أن تعاطف الدول الأوروبية كثير للقضية الأرمنية ـ ربما بسبب الانتماء الديني للأرمن ـ بادر إلى عقد اتفاقية مع ممثّل الأرمن بوغوص نوبار وبحضور الرئيس المؤقت لوفد جمهورية أرمينيا أوهانجيان. ووقّع الجانبان ـ باسم الشعبين ـ الاتفاقية، مؤكدين فيها على أن للكرد والأرمن مصالح وأهدافاً مشتركة هي: الاستقلال، والتخلّص من السيطرة العثمانية.. وقدّما نص الاتفاقية بمذكرة رسمية إلى المجلس الأعلى للمؤتمر، ووافق المجلس مبدئياً على المذكرة، ووصف المندوب السياسي البريطاني في الأستانة الاتفاقية بأنها من أسعد البشائر.
معاهدة سيفر (١٩٢٠)
نجح شريف باشا في إدخال ثلاثة بنود تتعلّق بالقضية الكرديّة في معاهدة سيفر التي أبرمها الحلفاء بباريس في آب (أغسطس) ١٩٢٠، وقد كرّس ذلك عملية تدويل القضية الكرديّة بصورة رسمية، رغم أن الدولة العثمانية حاولت مراراً أن تصف القضية الكرديّة بأنها قضية داخلية تستطيع الدولة حلّها.
وتعد معاهدة سيفر وثيقة فريدة في تاريخ القضية الكرديّة، حيث نصّت على تحقيق حل المشكلة الكرديّة بمراحل، وإذا اجتاز الكرد هذه المراحل، وطالبوا بالاستقلال، ورأت دول الحلفاء أهليّة الكرد لذلك يصبح الاستقلال أمراً واقعياً، وعلى الحكومة التركية الاعتراف بذلك... ويعد هذا أول اعتراف رسمي دولي بحقوق الشعب الكردي، ولا سيما حق تقرير المصير حيث طرحت المسألة في العرف القانوني للمعاهدات الدولية، وقد وصف كمال أتاتورك المعاهدة بأنها بمثابة حكم الاعدام على تركيا، وحاول بمختلف الوسائل وضع العراقيل لمنع تطبيق المعاهدة... ولذلك بقيت معاهدة سيفر حبراً على ورق، إلا أن هذا الورق أصبح وقوداً لنضال الحركة القومية الكرديّة فيما بعد.
انتهاك الوعود
ولم تر معاهدة سيفر النور، وذلك ـ حسب رأيي ـ للأسباب الآتية:
أولاً: صعود نجم «مصطفى أتاتورك» والحركة الكمالية، وتوسيع مناطق نفوذها، إضافة إلى تأسيس المجلس الوطني الكبير في أنقرة بديلاً لسلطة الأستانة.
ثانياً: خوف الدول الأوروبية، وبالأخص بريطانيا، من استغلال الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي الصراع الكمالي ـ الأوروبي لمصلحة نفوذهم في المنطقة.
ثالثاً: ذكاء مصطفى كمال باستغلاله الصراع الدولي لإلغاء معاهدة سيفر وقبرها.
لذلك لم يمر عام ونصف العام على توقيع معاهدة سيفر حتى طرحت فكرة إعادة النظر فيها، وجاءت هذه المواقف من قبل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واتخذ المجلس الأعلى للحلفاء قراراً بهذا الشأن يوم (٢٥ كانون الثاني/يناير ١٩٢١)، إضافة إلى توجيه الدعوة إلى وفد حكومة أنقرة لحضور المؤتمر القادم، الأمر الذي دلّ على اعتراف الحلفاء بالواقع الجديد في تركيا.
مؤتمر لندن (١٩٢١)
عقد مؤتمر في لندن في شباط (فبراير) ١٩٢١ لبحث المشاكل العالقة، ومن ضمنها المشكلة الكرديّة، حيث اعتزم الحلفاء إعطاء تنازلات مهمّة في هذه القضية، لكن الحكومة التركية أصرت على أن المسألة داخلية، يمكن حلّها داخلياً، لا سيما وأن الكرد لهم الرغبة في العيش مع إخوانهم الأتراك حسب ما زعمت آنذاك، وأثناء انعقاد مؤتمر لندن، عقدت حكومة أنقرة عدداً من الاتفاقيات الدولية التي كرّست الشرعية الدولية القانونية للنظام الجديد في تركيا... ثم قامت الحكومة الجديدة بإلغاء جميع الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمتها حكومة الأستانة ومن ضمنها معاهدة سيفر. كل ذلك أدى إلى تعزيز مكانة الحكومة التركية الجديدة.. وبذلك فشل مؤتمر لندن في توجه ضربة إضافية للآمال القومية الكرديّة.
معاهدة لوزان (١٩٢٣)
جاءت فكرة عقد معاهدة لوزان بعد الانتصارات الكبيرة التي حققتها الحكومة التركية الجديدة على الجيش اليوناني، وبذلك ظهرت تركيا كدولة فتية قوية لأول مرة بعد قرنين، وقامت الحكومة الجديدة بتحسين العلاقة مع جارها الاتحاد السوفياتي، وعقدت مباحثات المعاهدة على فترتين: استمرت الأولى نحو ثلاثة أشهر بين نهاية العام ١٩٢٢ وبداية العام ١٩٢٣، والفترة الثانية استمرت الفترة ذاتها ما بين ربيع وصيف عام ١٩٢٣.
ونصت معاهدة لوزان على أن تتعّهد أنقرة بمنح معظم سكان تركيا الحماية التامة والكاملة، ومنح الحريات من دون تمييز، من غير أن ترد أية إشارة للكرد فيها، كما لم تجر الاشارة إلى معاهدة سيفر، وعدّ الكرد هذه المعاهدة ضربةٌ قاسية ضد مستقبلهم ومحطمة لآمالهم... وبذلك يتحمل الحلفاء المسؤولية الأخلاقية الكاملة تجاه الشعب الكردي ولا سيما الحكومة البريطانية التي ألحقت فيما بعد ولاية الموصل ـ التي يشكّل الكرد فيها الأغلبية المطلقة ـ بالعراق.
وأدّى كل ذلك إلى ازدياد المشكلة الكرديّة تعقيداً بعد أن أصبح الشعب الكردي موزّعاً عملياً وقانونياً بين أربع دول بدل دولتين، لتزداد معاناته وليبدأ فصل جديد من فصول علاقته بالدول الجديدة طغى عليها التوتّر والعنف اللذان لم يجدا حتى اليوم حلولاً عادلة، فيما بدأت الأحزاب والقوى القومية الكرديّة تتشكل لكي تقود النضال والكفاح من أجل حق تقرير المصير.
«المشاهد السياسي» ـ لندن

الخميس، 30 أبريل 2009

منذ القدم عندما بدأ البشر بالعيش في تجمعات وعلى رقع جغرافية محدودة المساحات, كان هاجسهم الأمني هو همهم الأول , لذا عملت على إنشاء حدود آمنة وقوية من أجل الدفاع عن نفسها وعن كيانها وذاتها من أي أخطار أو اطماع خارجية , فلهذا السبب قامت تلك الكيانات ببناء الأسوار والقلاع, وسور الصين العظيم خير دليل على ذلك
إن مفهوم الأمن القومي كمصطلح سياسي حديث قد تعرض إلى تغيرات جذرية بسبب التأثيرات التاريخية والسياسية على الساحة الدولية, فهو كمصطلح مفاهيمي ليس له تعريفاً محدداً, بل تعريفات مختلفة في عالم السياسة بإختلاف البيئات والمدارس والظروف والمراحل التاريخية .
فمن وجهة نظر دائرة المعارف البريطانية, فلأمن القومي هو( حماية الأمة من القهر على يد قوة أجنبية )
ومن وجهة نظر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسينجر أن الأمن القومي ( أي تصرفات يسعى المجتمع عن طريقها إلى حفظ نفسه في البقاء ) .
يقول بادي بوزان أحد أبرز المختصين في الدرسات الأمنية بأن ( العمل على تحرر من التهديد ) .
وكما يذهب روبرت مكنامارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ورئيس البنك الدولي بعد ذلك, بأن الأمن القومي هو ( التنمية) والإكتفاء بهذا بدون الإستطراد في سرد الأراء والتعريفات الأخرى .
ونرى في الوقت نفسه بأن اختلاف الأنظمة الدولية السائدة يؤثر تأثيراً بالغاً في مفهوم الأمن القومي وتوجهاته, ففي الفترة التي سادت فيها التعددية القطبية وامتدت منذ مطلع القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كان الإهتمام بالأمن القومي مرتبطاً بعملية توزيع مناطق النفوذ والصراع على المواد الأولية بين الدول الكبرى في النظام الدولي انذاك, غير أن الإهتمام بالأمن تطور وتغير عندما ساد نظام الثنائية القطبية بعد عام 1945 م . ومع انهيار المعسكر الإشتراكي في نهاية الثمانيات ظهر نوع من الأمن الكوني الذي تكييفه وتهيمن عليه وتتلاعب بمقدراته دولة واحدة,ألا وهي الولايات المتحدة الأمركية مع تصاعد الدور الصيني والأوربي, ويبدو أنه بعد الأزمة المالية العالمية أخذت التوجهات الأمنية منحى آخر, وفي الوقت نفسه فإن مجال الأمن القومي يختلف من دولة إلى أخرى, فالدول العظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا... يكاد يكون العالم كله مجالاً لأمنها القومي, فأصبحت الأساطيل البحرية والقواعد العسكرية الأمركية موجودة في كل بقع الأرض, ومن ضمن هذه المناطق الشرق الأوسط التي غدت مجلاً استراتيجياً وحيوياً جداً للأمن القومي العالمي والأمريكي بشكل خاص, وهو تطبيق لمقولة, من يسيطر على الشرق الأوسط, يسطر على العالم .
ونظراً لوجود ثلثي المخزون العالمي للطاقة 66% من النفط 25 % من الغاز الطبيعي, ولما كانت الطاقة هي العمود الفقري للاقتصاد الحديث وخاصة لإقتصاد الولايات المتحدة الأمركية بوصفها أكبر مستهلك عالمي لموارد الطاقة 34 % ولهذا السبب يقع على عاتقها القيام بالدور الريادي في تأمين وحماية أمن الطاقة, وفي النهاية تستطيع الخروج بنتيجة مفادها أن الأمن القومي لأي كيان سياسي أودولة أو مجتمع يرتكز على مرتكزات ثلاث ألا وهي:
1-الأمن الداخلي ويشمل الأمن السياسي ,الاجتماعي, الاقتصادي, الثقافي...العسكري .
2-الأمن الاقليمي: ويتضمن علاقة الكيان أو المجتمع مع الدول المجاورة أو الأقليم الجغرافي, وذلك بالعمل على خلق حالة من التوازن الإستراتيجي فيما بينها .
3-الأمن الدولي: وهي علاقة الدولة مع باقي دول العالم.
بعد توضيحنا للمفهوم الحقيقي للأمن القومي بشكل عام, وذلك كمصطلح سياسي جديد استراتيجي مهم لوجود وحماية المصالح الحيوية لأية دولة أوكيان سياسي لأي شعب من شعوب العالم .
إن هذه المقدمة كانت ضرورية من أجل اتخاذها كمعيار توضيحي عند مجيئنا إلى تسليط الضوء في طبيعة الأمن القومي على الواقع الكردستاني ولكي نكون موضوعيين في طرحنا هذا, لابد من استعراض منحى التطور التاريخي عبر البعد الزمني للتاريخ الكردستاني سلباً وإيجاباً .
فمن المعلوم أن الشعب الكردي قد مرَّ بمراحل ومحطات تاريخية وسياسية عصيبة ومصيرية ابتداء من تقسيم كردستان بعد الحرب العالمية الأولى وعدم حصول الكورد على استقلالهم بموجب البنود (62.63.64) من معاهدة سيفر, مروراً بتأسيس وسقوط جمهورية مهاباد 1946م نتيجة للحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة حتى نهايته في أوائل التسعينيات .
حيث قام الكورد في تلك الفترة بتأسيس أحزابها السياسية ذات البرامج العصرية والصيغ اليسارية والتي ساعدت على تطور وتبلور الفكر القومي الكوردي, إلا أن الشعب الكوردي لم يتمكن من الحصول على حقوقه القومية نتيجة لجملة من العوامل الدولية والاقليمية والذاتية .
ودخلت القضية الكوردية مرحلة جديدة عندما قامت الدول الغربية (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية بإنشاء المنطقة الآمنة المعروفة ((بالملاذ الآمن)) في شمال خط 36 وتبعته قرار مجلس الأمن الدولي ذو الرقم 688 في 5 نيسان 1991 , الذي عزز الموقف الكوردي دولياً مما دفعت القضية الكوردية إلى الساحة الدولية بقوة .
وبرأي الشخصي أعتبر هذا التاريخ هو ميلاد الأرضية الخصبة للأمن القومي الكوردستاني, حيث كان واجباً على القيادة الكردستانية التفكير جدياً بالعمل على بناء مشروع الأمن القومي الكوردستاني كضرورة إستراتيجية ومهمة أساسية لوجودها وتطورها نظراً لتوفر العناصر الضرورية لذلك, الا وهي , السيادة ,الجغرافية(الأرض) والشرط المادي والعامل الدولي حتى وإن كانت في شكلها البدائي .
كما أنه وبموجب قرار مجلس الأمن رقم 986 حصل الإقليم على13% من عائدات النفط العراقية بالإيضافة إلى المساعدات الدولية, وواردات المعابر الحدودية (إبراهيم الخليل) على سبيل المثال, إلا أن قيادة الإقليم وللأسف الشديد لم تستغل الفرصة للإستفادة من تلك المكاسب, بل أخذت الأمور منحاً آخر توجت بالحرب الأهلية أو الإقتتال الأخوي عام 1994م
وبعد ذلك بسنوات قليلة حدثت تغيرات راديكالية على الساحة الدولية والإقليمية وحتى الكوردستانية, بعد حادثة ضرب أبراج التجارة العالمي في 11أيلول 2001م والتدخل الأمريكي العسكري لاسقاط نظام الطاغية صدام حسين عام 2003م والذي كان يشكل أكبر تهديد على الوجود القومي الكوردي, وتلتها تغييرات جذرية في بنية الدولة العراقية, حيث حصل الكورد على جزءِ كبير من حقوقهم القومية والتي انتهت بالإعتراف الدستوري بإقليم كردستان الفدرالي, وتبعتها انتخابات برلمانية عامة توجت بحكومة موحدة في 2006م .
فإذاأمعّنا النظر إلى الوضع الجيوبوليتيكي لإقليم كردستان داخل المحيط الإقليمي, نرى بوضوح وجود قوتين متداخلتين ومتناقضتين, فمن ناحية نرى دول الجوار المتمثلة بتركيا وايران وسوريا متعاونة فيما بينها ومتفقة على أن وجود إقليم كردستان إنما يشكل خطراً حقيقياً على أمنهم القومي, ولهذا يعملون بكل مالديهم من طاقة وإمكانيات لإفشال هذه التجربة الكوردية الفتية بإقليم كردستان من خلال تحريض ودعم التركمان من قبل تركيا وتحريض العرب السنة من قبل سوريا وقضية كركوك وحزب العمال الكوردستاني, وما هي إلا حجج وذرائع وأوراق ضغط مختلفة لتهديد أمن ووجود الإقليم, حتى التواجد الإقتصادي والتجاري التركي بهذه الكثافة (1900 شركة) إنما يشكل بحد ذاته تهديداً خطيراً على أمن واستقرار الإقليم, حيث أن باستطاعة تركيا تجميد نشاط شركاتها تلك عند الضرورة, وعندئذ ستصاب الحياة الاقتصادية والتجارية للإقليم بالشلل .
أما الجانب الأخر المتناقض, هي القوة الإيجابية المتمثلة بالبعد الجغرافي والبشري الديمغرافي الكوردستاني داخل تلك الدول .
وكما هو معلوم, فمسألة الأمن القومي لأي كيانٍ سياسي, تتعرض لعوامل غير ثابتة, كالعامل السياسي والدولي, حيث أنها تتغير بحسب المصالح والظروف, وهناك أيضاً عوامل ثابتة استرتيجية, كالجغرافية السياسية. فالبعد الكوردستاني يعتبر أهم العناصر وأحد المرتكزات الأساسية في مسألة أمن الإقليم واستقراره .
إنها مسألة تثير الدهشة والإستغراب لعدم استغلال قيادة الإقليم لعامل الجغرافية السياسية وخاصة في هذه المرحلة التاريخية المصيرية لأمن ومستقبل الإقليم بالرغم من توفر جميع الإمكانيات اللازمة لذلك, فميزانية الإقليم لعام 2008م قد تجاوزت 9 مليارات دولار أمريكي, ما عدا عائدات المعابر الحدودية والإنتاج المحلي للنفط والمساعدات الدولية, وبالمقارنة فقد تجاوز ميزانية الإقليم على ميزانية الدولة السورية ذات العشرين مليون نسمة!.. ولن نفشي سراً, أن النظام السوري من أجل أمنها تستخدم أوراق ضغطٍ من فليبين مروراً بالسودان وصولاً الى افغانستان وباكستان .
وكما بيينا أعلاه, أنه بالرغم من توفر هذه الميزانية الضخمة للإقليم, إلا أنها وحتى الآن لم تحرك ساكناً على المستوى الأمن القومي في محيطها الإقليمي, وكما هو معروف ايضاً فأن عناصر الأمن القومي الداخلي ((السياسي , الإجتماعي, الإقتصادي, الثقافي....)) في تلكؤ وابطاء . فعلى سبيل المثال لا الحصر, مسألة الثقافة كأحد عناصر الأمن الوطني الهامة, فإن ميزانية وزارة الأوقاف في حكومة الإقليم تعادل ضعف ميزانية وزارة الثقافة .
وأخيراً فإن مسألة الأمن القومي من المنظور الاستراتيجي والجيوسياسي يعتمد اعتماداً كبيراً على الإمتداد الجغرافي أو بما تسمى بالحقول الأمنية.
بالإيضافة إلى الروابط العرقية والثقافية القوية والتي بمجملها تخلق فيما بينها حقلاَ أمنياً مشتركاً .
وأخيراً فإن القضية الكردية هي واحدة مع اختلاف الحلول في كل جزءِ حيث تتأثر فيما بينها حتماً, فتقدمها في أحد أجزائها تؤثر إيجاباً على الأخرى والعكس صحيح
بلجيكا 28-04-2009

الثلاثاء، 31 مارس 2009

.أحمد الخليل : سلسلة دراسات في التاريخ الكردي( الحلقة الثالثة عشرة )
الكرد في لوحات مشوَّهة ومريبة (2)عباقرة أم متعبقرون؟
العبقرية مستويات، والعباقرة درجات.
والمنتظر من العباقرة- في أيّ عصر كانوا، وإلى أيّ جغرافيا انتموا- أن يكونوا بناة حضارة، ودعاة خير، وصنّاع نفع لشعوبهم وأوطانهم على أقل تقدير؛ هذا مع ثقتنا التامة بأن العبقري الأصيل يرفض الوقوع في أسر النرجسية؛ سواء أكانت ذاتية، أم قبلية، أم طائفية، أم دينية، أم قومية؛ إن العبقريّ الأصيل إنسانيّ النزعة، كونيّ الانتماء، سامي المبادئ، نبيل المواقف، نقيّ الفكر، عفيف اللفظ، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وهو بعد هذا صُلب العزيمة، قوي الشَّكيمة، لا يسيل لعابه لترغيب، ولا يستسلم لترهيب.
ومن الإجحاف الزعم أن ثقافاتنا- نحن شعوب غربي آسيا- تفتقر إلى العبقرية وتخلو من العباقرة، لكن من الإجحاف الزعم، في الوقت نفسه، أن العباقرة الأصلاء هم الذين أداروا دَفّة القيادة الثقافية في منطقتنا العريقة هذه معظم العصور، بلى، إنهم لم يكونوا خلف دفّة القيادة، ليس لأنهم جهلوا أهمية القيام بتلك المهمة الجليلة، ولا لأنهم تهرّبوا من القيام بمسؤولياتهم التاريخية الكبرى، وإنما لأنهم حُوربوا بقسوة حتى في لقمة عيشهم، ورُجموا بأشنع الاتهامات (انحراف، فسق، زندقة، ضلال، كفر، إلحاد، علمانية، عمالة، إلخ)، تمهيداً لإزاحتهم من قيادة المجتمع، ورميهم في طيّ النسيان.
ومن هم الذين كانوا وراء إعلان الحرب على العباقرة الأصلاء؟
إنهم العباقرة المزيفون، إنهم المتعبقرون، أجل، ألم يكن غربي آسيا موطن الأنبياء الأصلاء والأنبياء الكذبة (المتنبئين)؟ فلا عجب إذاَ أن يظهر فيه (المتعبقرون) ليقطعوا الطريق على (العباقرة)، ولا عجب أيضاً أن يبرز فيه أدعياء الثقافة، ليسحبوا البساط من تحت أقدام المثقفين الأصلاء.
وكان موضوع الصراع بين العباقرة والمتعبقرين- وما زال- هو رسم المسارات الأساسية لحياة المجتمعات، وتأسيس مرتكزات الانطلاق نحو تلك المسارات، وترسيخ القيم والقواعد والتشريعات التي تساعد على تحقيق الأهداف المنشودة. وكان أعتى سلاح في أيدي المتعبقرين هو السيطرة على الجماهير (العامّة)، واحتكار إنتاج الرأي العام (رأي الشارع بلغة عصرنا)، والاستئثار بتسويقه وتصديره وإعادة إنتاجه، وتغييب العباقرة وأفكارهم المتنوِّرة.
وليس هذا فحسب، بل إن المتعبقرين كانوا يحوّلون (الرأي العام) الجماهيري إلى عصا، يُظهرون رأسها من تحت العباءة لكل حاكم (خليفة، سلطان، ملك، رئيس) يقف عقبة في طريق مشاريعهم، فما كان من الحاكم- والحال هذه- إلا أن ينزل عند رغباتهم، ويفعل ما ينال به رضاهم، ويوافق على اتخاذ إجراءات قاسية، بل قاسية جداً أحياناً، ضد العباقرة الأصلاء.
وأكتفي في هذا الصدد بذكر مثال واحد، هو موافقة السلطان صلاح الدين الأيوبي على الحكم بقتل الفيلسوف الكردي شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي (يحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك) سنة (586 هـ) في حلب، نزولاً عند فتوى من بعض الفقهاء، اتفقوا على صياغتها، ورفعوها إلى السلطان، وأفتوا فيها بضرورة قتل السهروردي، "وقالوا: إن بقي هذا فإنه يُفسد اعتقاد الملك [= الملك الظاهر حاكم حلب، وهو ابن صلاح الدين]، وكذلك إن أُطلق فإن يُفسد أيَّ ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك ". (ابن أبي أَصَيْبِعة: عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء، ص 167).
والحق أن العباقرة الحقيقيين كانوا أقدر الناس على كشف ألاعيب المتعبقرين، وحسبي أن أذكر رأي واصِل بن عَطاء (كبير زعماء المعتَزلة توفي سنة 131 هـ = 748 م) في المتعبقرين وأدعياء الثقافة، فقد وصفهم بقوله:
" ما اجتمعوا إلا ضَرّوا، ولا تفرّقوا إلا نَفَعوا. فقيل له: قد عرفنا مَضَرّة الاجتماع، فما مَنفعة الافتراق؟ قال: يَرجِع الطَّيّانُ إلى تَطْيِينه، والحائكُ إلى حِياكته، والمَلاّحُ إلى مِلاحته، والصائغُ إلى صياغته، وكلُّ إنسان إلى صناعته، وكلُّ ذلك مَرْفِق [= ما يُنتفَع به] للمسلمين، ومَعونة للمحتاجين ". (الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج 1، ص 283).

آليات وإبداعات
ومن أسوأ التقاليد التي أرساها المتعبقرون (أدعياء الثقافة) في ثقافات غربي آسيا هو الدوران في فلك الأنانية (النرجسية) إما ذاتياً، أو قبلياً، أو طائفياً، أو دينياً، أو قومياً، وتوظيف جميع وسائل الدعاية الممكنة؛ لإخراج تلك النرجسية في صورة الفكر الأسمى والأنقى والأتقى.
ومعروف أنه حيثما تكن النرجسية تكن (ثقافة إلغاء الآخر)، إنهما شريكان لا يفترقان، ونهجان متكاملان، وهكذا تقع المجتمعات، عبر الأجيال المتتابعة، ضحية الفكر الظلامي المنغلق، الفكر الذي لا يرى معتنقه إلا نفسه، أو قبيلته، أو طائفته، أو دينه، أو قوميته؛ ومتى كان فكر كهذا مدخلاً إلى السلم والحضارة؟
وكان المتعبقرون (أدعياء الثقافة) في غربي آسيا بارعون في اختراع الآليات الكفيلة بتكريس مشاريع الإلغاء والإقصاء، وهي آليات كثيرة يأخذ بعضها برقاب بعضها الآخر، وتتمثّل فيها أقصى درجات الدهاء والمكر، والتلبيس والتدليس، ودسّ السمّ في الدسم، واستغفال القارئ والسامع، وتجاهل حقائق الجغرافيا والتاريخ، وتعميم السذاجة في التفكير، والجلافة في التعبير، والبلادة في الشعور، والمؤسف أنها تصل أحياناً إلى الدركات السفلى من الانحطاط والنذالة. :وإليكم بعض تلك الآليات 1. التعميم: هو إحلال الجزء محل الكل، والفرع محل الأصل، وصرف الانتباه عن القضايا الكبرى، وإشغال الناس بالتَّفاهات. 2. التعتيم الكلي: تُمارَس هذه الآلية ضد (الآخر) حينما يصبح مجردُ ظهوره عائقاً في طريق تكريس مشاريع الإلغاء. 3. التعتيم الجزئي: هنا يسمح القائمون على مشروع الإلغاء بالإفراج عن بعض المعلومات؛ وهم لا يفعلون ذلك إلا عندما يعجزون تماماً عن تغييب (الآخر) تغييباً كاملاً. 4. التضخيم: تُمارَس هذه الآلية لتكبير الجانب السلبي في حياة شخص أو جماعة، كي يُلفت الانتباه أكثر، ويُشغِل عن التنبّه إلى الجوانب الإيجابية الكثيرة. 5. التقزيم: تُمارَس هذه الآلية لتصغير الجوانب الإيجابية في حياة شخص أو جماعة، كي تبدو محدودة جداً بل تافهة، لا تستحق الوقوف عندها. 6. التمويه: تُمارَس هذه الآلية حينما يكون شخصان أو أكثر مشتركان في صفة ما غير حميدة، وَفق معايير قادة مشاريع الإلغاء، لكن يُراد ذكر أحدهما، وتغييب الآخر، فيُذكَر الأول، ويوضَع الآخر تحت بند العبارة الغامضة: (وغيره). 7. التحريف: هو إخراج الشخص أو الحدث من سياقه التاريخي الطبيعي، والحكم عليه بعد وضعه في ساق تاريخي آخر مصطنَع. 8. التدليس: هو آلية تقديم السمّ في الدَّسَم، والجِدّ في قالَب الفكاهة، والمزاعم في صور الحقائق، والأكاذيب في صور المعلومات الموثَّقة. 9. التخليط: هو خلط الأمور بعضها ببعض، وتقديمها على شكل كومة هائلة من المعلومات المتراكبة المتناقضة، فيصبح المراقب عاجزاً عن متابعة أمرٍ ما من البداية إلى النهاية، للخروج بنتائج محدّدة. 10. التبشيع: تجلياتها متشعّبة ومتشابكة، أبرزها: التفسيق والتكفير (دينياً)، والعمالة والخيانة (وطنياً)، والطعن في النسب والسلوك (اجتماعياً). 11. الخداع اللغوي: هذا في حد ذاته مدخل إلى كثير من فنون الدس والتضليل، تارة عبر استعمال التعبيرات الزئبقية، وأخرى عبر التجسير اللغوي المفتعَل، وثالثة عبر توظيف المجاز والرمز. هذه بعض آليات قادة مشاريع الإلغاء، وهي في تجدد وتطوير مستمر، وكان المتعبقرون يتفنّون في اختراعها بما يتناسب مع كل مكان وزمان وموقف، ونجد في الأجيال الحديثة من المتعبقرين أناساً سبقوا بأشواط أساتذتهم القدامى في هذا الميدان، وهم على أُهْبة الاستعداد لأن ينقضّوا على كل اختراع علمي حديث، كي يوظّفوه بمهارة في مشاريعهم الألغائية.
ولنعد إلى استكمال إبداعات صنّاع (ثقافة الإلغاء) في ميدان تشويه صورة الكرد عبر مصادر التراث الإسلامي، فتلك الإبداعات عامرة بجميع أصناف الآليات المشار إليها، وقد ذكرنا بعضها في الحلقة السابقة، وإليكم بعضها الآخر.
تهمة اللصوصية

اللصوصية من لوازم المجتمعات قديماً وحديثاً، وليس من الغرابة في شيء أن يكون في المجتمع الكردي لصوص، وتعالوا نتفحّص ما جاء في بعض مصادر التراث الإسلامي حول وصف الكرد باللصوصية.
قال ابن الأثير في أحداث سنة (421 هـ): " وفيها ظهر مُتلصِّصةٌ ببغداد من الأكراد، فكانوا يَسرِقون دوابَّ الأتراك، فنَقل الأتراك خيلَهم إلى دُورهم، ونقل جلال الدولة [= من ملوك بني بُوَيْه] دوابّه إلى بيت في دار المملكة ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 9، ص 410). نقل ابن كَثير الخبر السابق نفسه في حوادث سنة (421 هـ)، فقال: "وفيها دخل خَلقٌ كثير من الأكراد إلى بغداد، يَسرِقون خيلَ الأتراك ليلاً، فتحصّن الناس منهم، فأخذوا الخيول كلَّها حتى خيلَ السلطان ". (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 28). وأورد الحافظ الذَّهَبي أيضاً الخبر نفسه ضمن أحداث سنة (421 هـ) قائلاً: "وتجدَّد دخول الأكراد اللصوص إلى بغداد، فأخذوا خيول الأتراك من الإصْطَبْلات ". (الذهبي: العِبَر في خَبر مَن غَبَر، ج 2، ص 243). تعليق: من الآليات العريقة في (ثقافة إلغاء الآخر) الغرب آسيوية تقديم المعلومة بعيداً عن المعطيات البيئية والاجتماعية والسياسية المواكبة لها، وقد أدرجنا هذه الآلية تحت بند (التحريف)، والحقيقة أن هذه سُنّة متّبَعة وبإصرار إلى يومنا هذا، سواء أكان في مجال التعظيم والتمجيد، أم في مجال التبشيع والتنديد.
وهذه الآلية بارزة في الخبر السابق، فالمهم بالنسبة إلى صانع الخبر وراويه هو إلباس الكرد صفة اللصوصية، وليس من الضروري أن يعرف الناس الأسباب التي جعلت بعض الكرد يسطون على خيول الأتراك والبُوَيْهيين في بغداد عاصمة الخلافة ومركز السلطة.
والحقيقة التاريخية التي حاول صانع الخبر السابق إخفاءها هي أن العسكر الأتراك المرتزقة كانوا قد تغلغلوا في مفاصل الدولة العباسية منذ عهد ابن أختهم الخليفة المُعتصِم بالله (ت 227 هـ)، وصاروا العنصر الآمر الناهي في الدولة، وخاصة بعد أن دبّروا مؤامرة راح ضحيتها الخليفة المتوكِّل على الله سنة (247 هـ).
وفي سنة (334 هـ = 946 م) سيطر البُوَيْهيون (شعب آرياني موطنه جنوبي بحر قزوين) على بغداد عاصمة الدولة العباسية، وأزاحوا الأتراك عن سُدّة السلطة، وصار الأتراك مرتزقة في الجيش البُوَيْهي، وراح البويهيون وصنائعهم الأتراك ينهبون ثروات البلاد، ويسومون الناس ألوان الظلم والقهر.
ومعروف أن الكرد (قومٌ أولو بأس شديد)، وهم في مقدّمة الثائرين على الظلم والقهر حيثما كان؛ وهذه حقيقة تؤكدها مواقف كثيرة قديماً وحديثاً، وكان من الطبيعي- والحال هذه- أن تدور حرب شرسة بين الكرد الثائرين والسلطات الحاكمة حينذاك، وكان من جملة ما يقوم به الكرد في هذا الصراع هو السطو على خيول الجنود الترك والبويهيين في عُقْر دارهم، ومركز سلطتهم (العاصمة بغداد)، لاستخدامها في القتال ضدهم.
قال ياقوت الحموي يذكر إنجازات أبي الحسين علي بن أحمد الراسبي (ت 301 هـ): " وكان يتقلّد مِن حَدّ واسِط إلى حَدّ شَهْرَزُور، وكُورَتَيْن من كُوَر الأَهْواز جُنْدِيسابُور والسُّوس، وبادَرايا وباكَسايا، وكان مبلغُ ضمانه ألفَ ألف [= مليون] وأربعمائة ألف دينار في كل سنة، ولم يكن للسلطان معه عاملٌ غيرَ صاحب البريد فقط؛ لأن الحَرْث والخَراج والضِّياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلاً في ضمانه، فكان ضابطاً لأعماله، شديد الحماية لها من الأكراد والأعراب واللصوص ". (ياقوت الحَمَوي: مُعْجَم البلدان، ج 2، ص 548). تعليق: واسط مدينة بناها والي بني أُميّة على العراق الحجّاج بن يوسف الثَّقَفي، بناها بين الكوفة والبصرة، وانتهى بناؤها سنة (86 هـ)، وكان الكرد اللُّور (الفَيْلي) يقيمون في تلك المنطقة قبل الإسلام، إلى جانب شعوب جنوبي بلاد الرافدين القديمة، وأما شهرزور فكانت منطقة واسعة، تقع في الجِبالَ بين أربِيل وهَمَذان (أگبتانا عاصمة الميديين)، ويُفهم أن منطقة سليمانية في إقليم كردستان- العراق كانت جزءاً من منطقة شهرزور، وقد دمّر تيمورلنك مدينة شهرزور، واكتُشفت في السنوات الأخيرة تحت سد دَرْبَنْدي خان، لكن يد التنقيب لم تعمل فيها (انظر القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ص 398. ومأمون بك بن بيگه بك: مذكرات مأمون بك بن بيگه بك، المقدمة، ص 17 ، هامش 19).
والذي يهمّنا في هذا الخبر هو أن المنطقة الممتدة من واسط إلى شهرزور كانت مسكونة بالكرد بشكل كلي في الشمال، وبنسب مختلفة كلما اتجهنا جنوباً، ومرّ أن الكرد كانوا يرفضون الانصياع التام للسلطات الحاكمة، وكانوا يقومون بما يشبه حروب العصابات، فأدرجهم مثقفو السلطة مع الأعراب في خانة اللصوص، ومرة أخرى كانت الأسبقية للأكراد كما هي العادة.
قال أبو الفتح المُطَرِّزي (ت 616 هـ): " الكلبُ الكُرديّ مَنسوبٌ إلى الكُرد؛ وهم جيلٌ من الناس لهم خُصُوصيّةٌ في اللُّصوصيّة". (المُطَرِّزي: المُغَرِّب في ترتيب المُعَرِّب، ص 404). تعليق: كل شيء كردي هو غير عادي، حتى لصوصيتهم لها خصوصية.

تهمة الإفساد وقطع الطرق
وردت في مصادر التراث الإسلامي روايات متعددة حول قيام الكرد بالاضطرابات ضد السلطات الحاكمة، وقطع الطرق، وإحداث الفوضى:
قال البَلاذُري: " وحدّثني المَدائني وغيره أن الأكراد عاثوا وأفسدوا في أيّام خروج عبد الرحمن بن محمّد بن الأَشْعَث. فبعث الحجّاجُ عمرَو بن هانئ العَبْسي في أهل دمشق إليهم، فأَوْقعَ بهم، وقتل منهم خلقاً ". (البلاذري: فتوح البلدان، ص 319). قال ابن الأثير في أحداث سنة (148 هـ): " وفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن بَرْمَك، وسبب ذلك أنه بلغه انتشار الأكراد بولايتها وإفسادهم، فقال: من لها؟ فقالوا: المُسَيَّب بن زُهَير، فأشار عُمارة بن غمرة [= الصواب: عُمارة بن حَمْزة] بخالد بن بَرْمَك، فولاّه وسيّره إليها، وأحسنَ إلى الناس، وقَهر المفسِدين وكَفّهم، وهابه أهل البلد هيبةً شديدة مع إحسانه إليهم". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 585). قال ابن الأثير في أحداث سنة (231 هـ): " وفيها قَدِم وَصِيف التركي من ناحية أصْبهان، والجبال، وفارس، وكان قد سار في طلب الأكراد؛ لأنهم كانوا قد أفسدوا بهذه النواحي، وقَدِم معه نحوٌ مِن خمس مائة نفس فيهم غِلمان صغار، فحُبِسوا، وأُجيز بخمسة وسبعين ألف دينار، وقُلِّد سيفاً ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 7، ص 23). قال ابن كثير في أحداث سنة (433 هـ): " فيها شَعَثَت [= أثارت الاضطرابات] الأكراد ببغداد؛ لسبب تأخّر العطاء عنهم ". (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 49). قال ابن الأثير في أحداث سنة (445 هـ): " وفيها، في شَوّال، وصل الخبر إلى بغداد بأن جمعاً من الأكراد وجمعاً من الأعراب قد أفسدوا في البلاد، وقطعوا الطريق، ونهبوا القرى، طمعاً في السلطنة بسبب الغُزّ، فسار إليهم البَساسِيري [= قائد تركي] جَرِيدة [= خيّالة]، وتبعهم إلى البَوازِيج [= بلدة تقع عند مصبّ نهر الزاب الأسفل في دجلة]، فأوقع بطوائف كثيرة منهم، وقتل فيهم، وغَنِم أموالهم، وانهزم بعضهم فعبروا الزاب عند البوازيج، فلم يُدركهم، وأراد العبورَ إليهم، وهم بالجانب الآخر، وكان الماء زائداً، فلم يتمكن من عبوره، فنَجَوا ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 9، ص 596). تعليق: هذه الأخبار تؤكد فشل السلطات الحاكمة في إخضاع الكرد، وفرض السيطرة المطلقة عليهم، وهذه حقيقة معروفة منذ عهد الإمبراطورية الآشورية، فقد كانت المشكلة التي تؤرّق الملوك الآشوريين هي إخضاع الميديين (أجداد الكرد)، وعجزوا عن ذلك رغم جميع الحروب التي شنّوها عليهم، ورغم جميع أصناف البطش والتنكيل، بل إن نهاية الإمبراطورية الآشورية كانت على أيدي الميديين.
وكي نضع الأخبار السابقة في سياقها التاريخي الصحيح يكفي أن نستخدم عبارة (ثاروا، ثورة، ثائرون) بدل كلمة (أفسدوا، إفساد، مفسدون)، فالكرد كانوا يعبّرون عن رفضهم للخضوع بالتمرد والثورة وشنّ حروب العصابات، وكان من مصلحة السلطات الحاكمة أن تسمّيهم قطّاع طرق ومفسدين، وكان من مهمّة مثقفي السلطة، على اختلاف تخصصاتهم، أن يتلقّفوا تلك التوصيفات، ويروّجوها عبر الروايات.
روى الشاعر الشيعي المعروف دِعْبِل بن علي الخُزاعي (ت 246 هـ = 860 م) قصة طويلة خلاصتها أنه ألف قصيدة، منها قوله (مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تلاوةٍ)، وقصد بها الإمام الشيعي علي بن موسى الرضا في خُراسان، إذ كان وليّ عهد الخليفة المأمون، فأنشده القصيدة، ثم أنشدها أمام المأمون أيضاً، وقبض منهما أموالاً كثيرة، إضافة إلى ما وهبه له علي بن موسى الرضا من ثياب خاصة به، كما أن الوزير ذا الرئاستين وهبه بِرْذَوْناً أصفر ومِمْطراً (ثوب لاتقاء المطر) من حرير، وقال دِعْبِل: " وقضيت حاجتي، وكَرَرْت راجعاً إلى العراق، فلما صرت ببعض الطريق، خرج علينا أكراد يُعرَفون بالماريخان [= الصواب: مازنْجان، وهم قبيلة من الكرد في حدود أصفهان]، فسلبوني، وسلبوا القافلة، وكان ذلك في يوم مَطِير. فأعتزلت في قميص خَلَق [= عتيق بالٍ] قد بقي علي، وأنا متأسّف- من جميع ما كان عليّ- على القميص والمِنشَفة اللذين وهبهما لي علي بن موسى الرضا، إذ مرّ بي واحد من الأكراد، وتحته البِرْذَوْن الأصفر الذي حملني عليه ذو الرياستين، وعليه المِمْطَر الخَزّ، ثم وقف بالقرب مني، وابتدأ ينشد: (مدارس آيات)، ويبكي. فلما رأيت ذلك، عَجِبت من لصّ كرديّ يتشيّع، ثم طمعت في القميص والمِنشفة. فقلت: يا سيّدي، لمن هذه القصيدة ؟ فقال: ما أنت وذاك؟ ويلك!
فقلت له: فيه سببٌ أُخبرك به.
فقال: هي أشهر من أن يُجهَل صاحبُها.
قلت: فمن هو؟ قال: دِعْبِل بن علي الخُزاعي، شاعر آل محمد، جزاه الله خيراً.
فقلت له: يا سيدي، أنا - والله - دِعْبل، وهذه قصيدتي.
فقال: ويلك! ما تقول؟ فقلت: الأمرُ أشهرُ من ذلك، فسَل أهل القافلة، تُخْبَرْ بصحة ما أخبرتك به.
فقال: لا جَرَمَ- والله- لا يذهب لأحد من أهل القافلة خِلالة [= عود تُخَلَّل به الأسنان. وبالضم خُُلالة: تمرة] فما فوقها.
ثم نادى في الناس: من أخذ شيئاً فليردّه على صاحبه، فردّ على الناس أمتعتهم، وعليَّ جميع ما كان معي، ما فَقَد أحدٌ عِقالاً.
ثم رحلنا إلى مأمننا سالمين.
قال راوي هذا الخبر عن دِعْبِل: فحدّثتُ بهذا الحديث عليَّ بن بَهْزاد الكردي، فقال لي: ذاك - والله - أبي الذي فعل هذا ". (التَّنُوخي: الفَرَج بعد الشدة، ج 4، ص 227- 230).
تعليق: واضح من سياق الخبر أن بهزاد الكردي كان من الكرد الشيعة المثقفين الناقمين على السلطات الحاكمة، الثائرين عليها، وهو ليس مثقف فقط، بل إنه رجل شديد الموالاة لآل البيت، حتى إنه ردّ لأصحاب القافلة جميع أموالهم، مكافأةً لدعبل على قصيدته في مدح أهل البيت، وإن مثقفاً وشيعياً مخلصاً مثله لا يكون قاطع طريق بقصد السلب والنهب، وإنما يكون قائد حرب عصابات ضد السلطات الجائرة.
نقل التَّنُوخي خبر قاطع طريق كردي يُفتي فقال: " وحدّثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسِطي السَّرّاج، المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: كنت مسافراً في بعض الجبال، فخرج علينا ابن سَباب الكردي، فقطع علينا، وكان بزِيّ الأمراء، لا بزيّ القُطّاع. فقربت منه لأنظر إليه وأسمع كلامه، فوجدته يدل على فهم وأدب، فداخلْته فإذا برجل فاضل، يروي الشعر، ويفهم النحو، فطمِعت فيه، وعمِلت في الحال أبياتاً مدحته بها. فقال لي: لستُ أعلم إن كان هذا من شعرك، ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعراً الساعةَ، لأعلم أنك قلته، وأنشدني بيتاً. قال: فعملت في الحال إجازة له ثلاثة أبيات. فقال لي: أيُّ شيء أُخذ منك؟ لأردَّه إليك.
قال: فذكرت له ما أُخذ مني، وأضفت إليه قماش رفيقين كانا لي.
فردّ جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها، كيساً فيه ألف درهم، فوهبه لي.
قال: فجزيته خيراً، ورددته عليه.
فقال لي: لِم لا تأخذه؟ فوَرَّيت [= أخفيت] عن ذلك.
فقال: أحب أن تَصْدُقني.
فقلت: وأنا آمن؟
فقال: أنت آمن.
فقلت: لأنك لا تملكه، وهو من أموال الناس الذين أخذتَها منهم الساعة ظلماً، فكيف يَحِلّ لي أن آخذه؟
فقال لي: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص؛ عن بعضهم قال: إن هؤلاء التجار خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم - وإن كرهوا أَخْذَها - كان ذلك مباحاً لهم، لأن عَين المال مستهلَكة بالزكاة، وهؤلاء يستحقون أخذ الزكاة بالفقر، شاء أرباب الأموال أم كرهوا.
قلت: بلى، قد ذكر الجاحظ هذا، ولكن من أين يُعلَم أن هؤلاء ممن استَهلكت أموالَهم الزكاةُ ؟ فقال: لا عليك، أنا أُحضر هؤلاء التجار الساعة، وأُريك بالدليل الصحيح أن أموالهم لنا حلال.
ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار، فجاؤوا.
فقال لأحدهم: منذ كم أنت تَتْجُر في هذا المال الذي قطعنا عليه؟
قال: منذ كذا وكذا سنة.
قال: فكيف كنت تُخرج زكاته؟ فتَلَجْلَج [= تردّد في الجواب]، وتكلم بكلام مَن لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلاً عن أن يُخرجها.
ثم دعا آخر، فقال له: إذا كان معك ثلثمائة درهم وعَشَرة دنانير، وحالتْ [= مرت] عليك السنة، فكم تُخرج منها للزكاة ؟ فما أحسن أن يجيب.
ثم قال لآخر: إذا كان معك متاع للتجارة، ولك دَين على نفسَين، أحدهما مليء والآخر مُعْسِر، ومعك دراهم، وقد حال الحَوْل [= مرت سنة] على الجميع، كيف تُخرج زكاة ذلك؟ قال: فما فَهِم السؤال، فضلاً عن أن يتعاطى الجواب.
فصرفهم، ثم قال لي: بانَ لك صِدقُ حكاية أبي عثمان الجاحظ؟ وأن هؤلاء التجار ما زكَّوا قطُّ؟ خذ الآن الكيس.
قال: فأخذته، وساق القافلة لينصرف بها.
فقلت: إن رأيتَ أيها الأمير أن تَنفُذ [= ترسل] معنا مَن يُبلغنا المأمِن، كان لك الفضل.
ففعل ذلك ". (التنوخي: الفرج بعد الشدة، ج 1، ص 231 - 233).
تعليق: واضح من سياق الخبر أن ابن سَباب الكردي كان أيضاً من زعماء الكرد المثقفين، فالرجل بصير بتمييز الشعر، عليم بكتابات الجاحظ، خبير بفقه الزكاة، والأرجح أنه كان من الناقمين على السلطات، الثائرين عليها، وكانت عملية قطع الطرق جزءاً من حرب العصابات ضد السلطة.
قال ابن جُبَيْر يصف رحلته إلى مناطق آمِد (ديار بكر) في شمالي كردستان: " فتمادى سيرُنا أوّلَ الظهر، ونحن على أُهبة وحَذَر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل، نِصِيبين مدينة دُنَيْصِر [= دُُنَيْسِر، وهي قُوج حَصار]، يقطعون السبيل، ويسعون فساداً في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة، ولم يُعِن اللهُ سلاطينَها على قَمْعهم وكَفِّ عادِيَتهم، فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان باب نِصيبين، ولا دافعَ لهم ولا مانعَ إلا الله عز وجل ". (ابن جُبَيْر: رحلة ابن جُبَيْر، ص 215). تعليق: ابن جبير رحّالة أندلسي ( ت 614 هـ = 1217 م)، وقد بدأت رحلته إلى الشرق سنة (578 هـ = 1182 م)، وانتهت سنة (581 هـ = 1185 م)، وزار خلالها مصر، وبلاد الشام، والحجاز، والعراق، وشمالي كردستان (جنوب شرقي تركيا حالياً)، ويُفهَم من سياق الخبر أن القائمين على تنسيق ملفّات الشعوب في الذاكرة العرب آسيوية سرعان ما فتحوا لابن جُبَير الملفّ الكردي، وقدّموا له الكرد بالصورة البشعة المتّفق عليها؛ لذلك ما إن وطئت قدما ابن جُبَيْر المناطق الكردية حتى عاش في خوف دائم من (الأكراد).
ولست أنفي أنه كان بين الكرد من يقطع الطرق حينذاك، وأوضحنا الأسباب التي كانت تقف وراء ذلك، لكن الغريب أن الصورة التي قُدّمت لابن جُبير كانت شديدة القتامة، والغريب أيضاً أن رحلة ابن جُبَيْر كانت خلال عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقد عبّر في عدّة مواطن من كتابه عن إعجابه الشديد بعدالة صلاح الدين، وأشاد بمنجزاته الاقتصادية والعلمية، لكن يبدو أن القائمين على الملفّ الكردي حينذاك كانوا حريصين على طَمس كل ما هو مضيء في سيرة الكرد، وتضخيم ما هو سلبي فقط.
قال ياقوت الحموي في حديثه عن (شَهْرَزُور): " إلا أن الأكراد في جبال تلك النواحي على عادتهم في إخافة أبناء السبيل، وأخذ الأموال والسرقة، ولا ينهاهم عن ذلك زَجْرٌ، ولا يصدُّهم عنه قتلٌ ولا أَسْرٌ، وهي طبيعة في الأكراد معلومة، وسَجِيّةٌ جباهُهم بها مَوْسومة، وفي مُلَح الأخبار التي تُكْسَعُ [= تُمحى] بالاستغفار أن بعض المتظرّفين قرأ قوله تعالى: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونفاقاً) فقيل له: إن الآية (الأعرابُ أشدُّ كُفراً ونفاقاً) [التوبة: 97]. فقال: إن الله- عزّ وجلّ- لم يسافر إلى شَهْرَزُور، فينظرَ إلى ما هنالك من البَلايا المخبّآت في الزوايا ". (ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 3، ص 426 – 427). تعليق: أكثر ما يثير الانتباه هو الحكم العام الذي أصدره ياقوت بحق الكرد جميعاً، إلى درجة أنه جعل صفات النهب والسلب والسرقة طبيعة فطرية في الكرد. وكعادة غيره من المتحاملين على الكرد لم يجد حَرَجاً في توظيف الآية القرآنية الخاصة بالأعراب لخدمة مشروع أبلسة الكرد، وبرّر ذلك بأن الاستغفار كفيل بمحو الآثام الناجمة عن التلاعب بالآية.
أن استغفر ياقوت سرعان ما ذكر ما يتناقض تماماً مع حكمه المطلق السابق، فقال: " وقد خرج من هذه الناحية من الأجِلَّة والكُبَراء، والأئمّة والعلماء، وأعيان القضاة والفقهاء، ما يفوت الحَصر عنُه، ويعجز عن إحصائه النَفَسُ ومدُّه، وحسبُك بالقضاة بني الشَهْرَزُوري جلالةَ قَدْرٍ، وعِظَمَ بيتٍ، وفخامةً فعلٍ، وذكرِ الذين ما علمتُ أنّ في الإسلام كلِّه وَلِيَ من القضاة أكثرَ مِن عِدّتهم مِن بيتهم، وبنو عَصْرُون أيضاً قضاةٌ بالشام، وأعيانُ مَن فرّق بين الحلال والحرام منه، وكثيرٌ غيرُهم جداًَ من الفقهاء الشافعية، والمدارس منهم مملوءة ". (معجم البلدان، ج 3، ص 427).قال أبو دلف: دخلتُ على الرشيد وهو في طارِمة [= بيت كالقبة من خشب] على طِنْفِسة، ومعه عليها شيخٌ جميلُ المنظر [هو العبّاسُ بن الحسين بن عُبَيد الله بن العبّاس بن علي بن أبي طالب]؛ فقال لي الرشيد: يا قاسم، ما خَبَرُ أرْضك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خَرَابٌ يَبَاب، أَخْرَبَها الأَكراد والأعراب. فقال قائل: هذا آفةُ الجبل، وهو أفسده ". (الحُصْري القَيْرَواني: زهر الآداب وثمر الألباب، ج 1، ص 90 - 91). وذكر ابن حَمْدون الخبر ذاته في كتابه (التذكرة الحمدونية، ج 2، ص 197)، ويُفهم منه أن إقطاعة أبي دُلَف كانت تقع في منطقة إقليم كردستان – العراق. قال ابن حَمْدون:" كان رُكن الدولة أبو الحسن علي بن بُوَيْه ضعيف السياسة على خيرٍ فيه وكَرَمِ طبع، فخرجتْ له بغال للعلف، فقطع عليها اللصوص وأخذوها، فلما أُخبر بالحال قال: كم كانت البغال؟ فقيل: ستة. قال: واللصوص؟ قيل: سبعة. قال: الآن يختلفون، كان ينبغي أن تكون البغال سبعة حتى تَصِحّ قسمتُها بينهم. وذُكر له أكراد قطعوا الطريق، فقال: وهؤلاء الأكراد أيضاً يحتاجون إلى خبز ومعيشة ". (ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 1، ص 464). تعليق: إن الملك البُوَيهي وضع النقاط على الحروف، وصرّح بما أخفاه الآخرون؛ فـ (الأكراد) الذين كانوا يمارسون قطع الطرق لم يكونوا يفعلون ذلك من باب الهواية واللهو، وإنما لأن سبل الحياة كانت قد سُدّت في وجوههم، ولم يبق أمامهم سوى فرض الغرامات على التجار الذين كانوا يضطرون إلى المرور من جبال كردستان، لنقل البضائع شرقاً وغرباً.
إن افتقار المناطق الجبلية إلى الأراضي الصالحة للزراعة، وتهميش المناطق الكردية بشكل عام، وسيطرة السلطات المركزية على حركة التجارة، ونقمتها على الكرد؛ هذه العوامل جميعها قذفت بالكرد بين براثن الفاقة والحرمان، ووضعتهم أمام خيار وحيد؛ هو الاعتماد على القوة في تحصيل أسباب الحياة، ومقارعة السلطات، وتقاسم الثروة معها.

تهمة النفاق والكفر
قال الآبي:" ولما دخل الأكراد مدينة السلام مع أبي الهَيْجاء، واجتازوا بباب الطاق، قال بعض المشايخ من التجّار: هؤلاء الذين قال الله تعالى في كتابه: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً). فقال له إنسان: يا هذا، إنما قال الله (الأعرابُ). قال الشيخ: يا سبحان الله! يقطع علينا الأكراد، ونكذب على الأعراب "؟! (الآبي: نثر الدر، ج 2، ص 114). تعليق: بنو حَمْدان قبيلة عربية من قبيلة (تَغْلِب)، وأبو الهَيْجاء هو عبد الله بن حمدان، والد سيف الدولة الحمداني (أمير حلب وتوابعها في القرن الرابع الهجري)، وقد بدأ الحمدانيون تأسيس إمارتهم في الموصل، وكانت العلاقة وثيقة بينهم وبين بعض الكرد، وتتمثّل على نحو خاص في المصاهرة؛ إذ كانت أمهات بعض كبار أمراء بني حمدان وزوجاتهم كرديات، ومن ذلك أن أم أبي الهَيْجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة كردية، وكانت أم سيف الدولة كردية، ويبدو أن زوجته كانت كردية أيضاً، وكانت من مَيّافارقِين (فارقِين، في شمالي كردستان). (انظر أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، ص 111، ص 297).
وحينما سيطر العسكريون الأتراك على مقاليد السلطة في بغداد، ولا سيّما بعد أن دبّروا مقتل الخليفة المتوكل على الله، كان أمراء بني حمدان من جملة الثائرين عليهم، وظل الأمر كذلك حينما سيطر البويهيون على مقاليد الأمور، وكان ثمة تعاون عربي كردي ضد البويهيين والعسكر الأتراك، وواضح من الخبر أن الكرد كانوا يشكلون قوة قتالية هامة في جيش أبي الهيجاء. (انظر أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، ص 178- 179، و ص 183- 184).
وإذا أخذنا هذه المعطيات بالحسبان عرفنا النوايا الخافية وراء نقمة تجار بغداد على الكرد خاصة، وجرأتهم على اتهام الله – عزّ وجلّ- بالخطأ، فالمفروض– حسب رأيهم- أن تكون الآية بصيغة (الأكراد أشدّ كفراً ونفاقاً)، وليس بصيغة (الأعراب أشدّ كفراًَ ونفاقاً).
قال الزَّمَخْشَري:" سُمع رجل يقرأ: الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً. فقيل له: ويحك، الأعرابُ. فقال: كلُّه يقطع الطريق ". (الزَّمَخْشَرِي: ربيع الأبرار وفصوص الأخبار، ج 1، ص 364). قال ابن حَمْدُون:" سُمع رجل يقرأ: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً). فقيل له: ويحك! (الأعرابُ). قال: كلُّهم يقطعون الطريق ". (ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 9، ص 419). تعليق: هكذا نجد أن الخبر الذي يشتمل على تبشيع صورة الكرد يصبح مادة رائجة للطُّرفة، وهي مادة مقبولة للتداول ليس عند الأدباء من أمثال الآبي وابن حمدون فقط، وإنما عند بعض مشاهير مفسّري القرآن، من أمثال الزَّمَخْشَري (فارسي) صاحب تفسير (الكشّاف).
سئل ابن تَيْمِيَة بشأن جواز قتال التتار الذين أظهروا الإسلام، وقاتَلوا المسلمين، فقال: " وأمّا هؤلاءِ فدخلوا فيه وما التزموا شرائعَه. وقِتالُ هذا الضَّرْب واجبٌ بإجماع المسلمين، وما يَشُكُّ في ذلك مَن عَرَفَ دينَ الإسلام وَعَرَفَ حقيقةَ أمرِهم؛ فإنّ هذا السِّلْمَ الذي هم عليه ودِينَ الإسلامِ لا يَجتمِعان أبداً. وإذا كان الأكرَادُ والأعرابُ، وغيرُهم مِن أهل البوادي الذين لا يلتزمون شرِيعةَ الإسلام، يَجِبُ قِتالُهم، وإنْ لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهم إلى أهل الأَمْصارِ، فكيف بهؤلاء "؟! (ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 6، ص 425). تعليق: مرة أخرى نجد ابن تيمية (شيخ الإسلام!) يستخدم التعميم عندما يتعلق الأمر بـ (الأكراد)، أما العرب فاختار منهم (الأعراب) فقط، وحكم بأن الأكراد والأعراب لا يلتزمون شريعة الإسلام، وأفتى بوجوب قتالهم، ولم يشر إلى الأتراك مع أنهم كانوا بداة مثل الأكراد والأعراب.
تساؤلات ...تلك كانت جولة مع صورة الكرد في بعض كتب التراث الغرب آسيوي في العهود الإسلامية، ولست ممن يؤمنون بأن ثمة شعباً من الملائكة يمشي على الأرض، ولست أيضاً ممن يؤمن بأن ثمة شعباً اختاره الله منذ الأزل، وفضّله على جميع خلق في كل مجال، وأعتقد اعتقاداً جازماً بأن لكل شعب في هذا العالم صفاته التي يختلف بها عن غيره من الشعوب، ومن تلك الصفات ما هو إيجابي وما هو سلبي، وأعتقد أيضاً أن صفات كل شعب هي نتاج البيئة الطبيعية والظروف التاريخية التي تحيط به.
وذلك هو رأيي في الكرد أيضاً، فهم مثل بقية الشعوب، فيهم الصالح والطالح، والعالم والجاهل، والمحسن والمسيء، والفاضل والأفضل، والرديء والأردأ، لكن ما لم أستطع أن أجد له مبرراً منطقياً وموضوعياً هذه الحملة القاسية التي شُنّت على الكرد في مصادر التراث الإسلامي، إنها حملة شارك فيها المؤرخ، والجغرافي، وشيخ الإسلام، والإمام، والأديب، والشاعر، والرحّالة.
وما لم أجد له مبرراً منطقياً وموضوعياً أيضاً هذه الأحكام المطلقة التي تضع الكرد كل مرة في واحدة من خانات التبشيع، وهذا التعميم الذي يحلّ فيه الجزء محلّ الكل، وهذا التوظيف الغريب لبعض الآيات القرآنية في تشويه صورة الكرد، دونما أيّ حرج أو التزام بحدود التقوى.
ويبقى أخيراً أن نبحث عما وراء هذه الأقوال والروايات من حقائق، وأن نفتّش في أغوار الذاكرة الغرب الآسيوية عن هذه الظاهرة العجيبة؛ ظاهرة (أبلسة الكرد)، وقد سمّيناها أكثر من مرة (مشروع أبلسة الكرد)، ومن الضروري أن نسعى للوصول إلى إجابات عن أسئلة عديدة، منها:ما هي الأهداف الستراتيجية لمشروع أبلسة الكرد؟ - ومتى تأسس هذا المشروع؟ - ومن هم المؤسسون الأوائل؟ - ومن هم المنتفعون من هذا المشروع؟ - وما هي الآليات الموظّفة في هذا المشروع؟ - وما هي انعكاسات هذا المشروع على الكرد؟ - وما هي آثاره على مستقبل شعوب غربي آسيا؟
المراجع
الآبي: نثر الدُّر، كتاب إلكتروني، موقع الوَرّاق، http://www.alwarraq.com
ابن الأَثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.
أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى،1981.
أحمد محمود الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو، بيروت، 2007.
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار الثقافة، بيروت، 1981.
البَلاذُري: فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978.
التَّنُوخي: الفرج بعد الشدة، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، 1978.
ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، كتاب إلكتروني، موقع الإسلام، http://www.al-islam.com
الجاحظ: رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1979.
ابن جُبَيْر: رحلة ابن جبير، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1964.
الحُصْري القَيْرَواني: زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1970.
ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عباس، وبكر عبّاس، دار صادر، بيروت، 1996.
الذَّهَبي: العِبَر في خَبر مَن غَبَر، تحقيق أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985.
الزَّمَخْشِري: ربيع الأبرار وفصوص الأخبار، تحقيق الدكتور عبد المجيد دياب، والدكتور رمضان عبد التوّاب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992.
القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، دار صادر، بيروت، 1960.
ابن كَثِير: البداية والنهاية، دار ابن كثير، بيروت، 1965.
مأمون بگ بن بيگه بك: مذكرات مأمون بگ بن بيگه بك، تعريب محمد جميل الروژبياني وشكور مصطفى، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1980.
المُطَرِّزي: المُغَرِّب في ترتيب المُعَرِّب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980.
ياقوت الحَمَوي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990.

الاثنين، 30 مارس 2009

جذور العلاقة بين تركيا واليهود تاريخ الإضافة:11-2-2009سؤال يتردد في أذهان الكثيرين من الغيورين على هذه الأمّة العظيمة أمّة الإسلام، وهو لماذا لا تقطع تركيا عَلاقتها مع الكيان الصهيوني خاصةً أن التوجُّه الإسلامي واضح الآن في تركيا؟ بل لماذا تُصِرّ تركيا على استمرار التعاون العسكري مع الكيان الصهيوني، والذي يشمل صفقات سلاح، وتدريبات مشتركة، إضافةً إلى تبادل معلومات استخباراتية؟!لا شك أنه سؤال يراود أذهان الكثير والكثير..والإجابة عليه صعبة، وتحتاج إلى عودة إلى الوراء لتحليل التاريخ، ودراسة جذور العلاقة، وفهم خلفيات هذا التعاون..إنه علينا أن نعود لأكثر من مائة سنة لنفهم هذه الأمر! بل قد نحتاج إلى قراءة بعض الأحداث التي مرّ عليها مئات السنوات!!لقد كانت الخلافة العثمانية خلافة إسلامية من الدرجة الأولى، وكان لها الكثير من الأيادي البيضاء على الأمّة الإسلامية، وكانت تمثل القوة الأولى في العالم لأكثر من مائتي سنة متصلة، وفي أثناء قوتها قبلت أن تستضيف في ديارها العائلات اليهودية الهاربة من الأندلس بعد سقوطها سنة 1492م، وأكرمتهم كرمًا بالغًا، وأعطت لهم بعض الإقطاعيات في مدينة سالونيك باليونان (وكانت تابعة للخلافة العثمانية)، وعاش اليهود في كنف الخلافة العثمانية في غاية الأمن والاستقرار.لكن مرت الأيام وبدأت الخلافة العثمانية في الضعف كدورةٍ طبيعية من دورات الحياة، وفي نفس الوقت تظاهر عدد كبير من اليهود بالإسلام، وعرفوا بيهود الدونمة، أي اليهود الذين ارتدوا عن اليهودية إلى الإسلام، لكن هؤلاء ظلوا على ولائهم الكامل لليهود وإن كانوا يحملون أسماءً إسلامية..ووصل بعض هؤلاء اليهود إلى بعض المناصب الرفيعة في الدولة، وتعاونوا في السر مع إنجلترا وفرنسا واليهود لإسقاط الخلافة العثمانية، وتعطل مشروعهم بشدة عند ظهور السلطان عبد الحميد الثاني - رحمه الله - الذي حكم الخلافة العثمانية من سنة 1876 إلى سنة 1909م، ولكن قام هؤلاء اليهود بإنشاء جمعية تسمى "جمعية تركيا الفتاة" تدعو إلى الأفكار العلمانية والقومية، ومناهضة الفكرة الإسلامية بقوّة، ثم ما لبث أن التحق بها عدد كبير من أفراد الجيش مُكوِّنين ما عُرف بحزب الاتحاد والترقي، وهو الجناح العسكري بجمعية تركيا الفتاة.. وكان الشيء الجامع لكل هؤلاء الأعضاء هو علمانيتهم الشديدة، وكراهيتهم العميقة لكل ما هو إسلامي، وولاءَهم الكامل لليهود والإنجليز والفرنسيين.قام "حزب الاتحاد والترقي" بالانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني في سنة 1909م وبدءوا في نشر الأفكار العلمانية في الدولة، ووضعوا في الخلافة أحد الخلفاء الضعفاء جدًّا، وهو محمد رشاد الملقَّب بمحمد الخامس، وحكموا البلاد من وراء الستار.ظهرت بعد ذلك شخصية من أسوأ الشخصيات في التاريخ الإسلامي وهو شخصية مصطفى كمال (الملقب بأتاتورك)، وكان علمانيًّا كارهًا للإسلام تمامًا، ومواليًا للإنجليز واليهود بشكل كامل، وساعده الإنجليز في قلب نظام الحكم في الخلافة العثمانية، بل وإلغاء الخلافة العثمانية تمامًا، وإنشاء الجمهورية التركية، والانفصال الكامل عن كل بلاد العالم الإسلامي، ثم قام مصطفى كمال أتاتورك بوضع دستور الدولة التركية، وفيه أكّد بوضوح وصراحة على أن دولة تركيا علمانية لا دين لها، وألقى الشريعة الإسلامية، وصاغ القانون من القانون السويسري والإيطالي، وأتبع ذلك بعدة قوانين منعت كل مظهر إسلامي في البلد؛ كإلغاء الحروف العربية من اللغة التركية، واستخدام اللاتينية بدلاً منها، وإلغاء منصب شيخ الإسلام، ومنع الأذان للصلاة باللغة العربية، ومنع الحجاب من المؤسسات الحكومية والجامعات والمدارس، وإغلاق عدد كبير من المساجد، وقتل أكثر من 150 عالمًا من علماء الإسلام، وغير ذلك من القوانين والمواقف التي رسّخت العلمانية في تركيا.وبحكم أن مصطفى كمال أتاتورك كان قائدًا من قوّاد الجيش، فإنه أعطى للجيش التركي صلاحيات هائلة، ووضع في بنود الدستور ما يكفل للجيش التدخُّل السافر لحماية علمانية الدولة! وأصبحت العلمانية والبُعد عن الإسلام هدفًا في حد ذاته، وكان ذلك بالطبع بمباركة واضحة من الغرب الصليبي ومن الصهاينة في أنحاء العالم المختلفة، بل إن أفراد حزب الاتحاد والترقي - الذين صاروا قوادًا للجيش التركي - لهم جذور يهودية معروفة أو انتماءات ماسونية يعرفها الجميع.سيطر أتاتورك وآلته العسكرية الجبارة على الإعلام والتعليم، ومن خلالهما غيّروا أفكار الشعب التركي تمامًا، وحوّلوه إلى العلمانية المطلقة، ولعدة عشرات من السنين..وفي 1948م قامت دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" في فلسطين، وفي سنة 1949م اعترفت تركيا بدولة إسرائيل، وكانت هي الدولة الإسلامية الأولى التي تصدر هذا الاعتراف.وقامت تركيا بعلاقات حميمة مع الكيان الصهيوني، وأعلن بن جوريون قيام حلف الدائرة ليحيط بالعالم العربي، وكان هذا الحلف مكوَّنًا من تركيا وإيران (أيام الشاه) وإثيوبيا، وهو بذلك يقيم علاقات مع دول لها حساسية خاصة في التعامل مع العرب، وخاصةً أن هذه الدول كانت تامة العلمانية في ذلك الوقت.ومع مرور الوقت زادت أواصر العلاقة بين اليهود والأتراك العلمانيين، وتوثقت الأواصر العسكرية بين الطرفين بشكل مبالغ فيه، وليس هذا أمرًا مستغربًا في ظل معرفة الخلفية اليهودية لقيادة الجيش التركي من أيامه الأولى..ولقد حرص أتاتورك وخلفاؤه من بعده على استقلال المؤسسة العسكرية بشكل كبير، ومِن ثَمَّ فرئيس الوزراء يكوِّن وزارته من عدة وزراء منهم وزير الدفاع، ومع ذلك فلا يحق لهذا الوزير أن يغيِّر شيئًا في منظومة الجيش، بل يعودُ ذلك إلى "المجلس العسكري الأعلى"، والذي يختار رئيس الأركان بعناية شديدة، ثم يُصدِّق على هذا الاختيار رئيس الجمهورية، ومع أن الدستور ينصّ على أن رئيس الجمهورية هو الذي يختار رئيس أركان الجيش إلا أن هذا لا يتم في أرض الواقع، وبذلك يصبح الجيش مؤسسة مستقلة لها قيادتها البعيدة عن سيطرة رئيس الدولة أو رئيس الوزراء!وزاد النظام التركي من التعقيد في الأمور بإضافة ما يسمى بـ "مجلس الأمن القومي"، والذي يضم بعض العسكريين وبعض المدنيين، وذلك للتدخل بشكل رسمي في الأمور السياسية، وحرص الجيش على أن يكون عدد العسكريين أكبر، وبذلك صار تدخل الجيش في السياسة والانتخابات والأحزاب أكثر من أي مؤسسة أخرى في الدولة.كل هذه الأمور جعلت التوجُّه العلماني في الدولة أمرًا مفروضًا بالقوة، كما جعلت العلاقة مع اليهود موثّقة بشكل يصعب الفكاك منه..ولم يكن الجيش يتردد في أن يقوم بانقلاب عسكري على الحكومة إذا ظهرت أي بوادر احترام للإسلام، أو سماح له بالظهور! ولقد قام الجيش بانقلاب دمويّ خطير سنة 1960م للإطاحة بحكومة عدنان مندريس، الذي لم يكن إسلاميًّا، إلا أنه سمح لبعض القوى الدينية الإسلامية بالحركة، فاعتبر الجيش ذلك خرقًا لعلمانية الدولة، وقاموا بانقلاب، وحكموا بالإعدام على رئيس الدولة عدنان مندريس، وكذلك على ثلاثة من خاصَّته!وحدث انقلابان آخران في سنة 1971م وسنة 1980م، وكان الذي قام بالانقلاب الأخير هو الجنرال كنعان إيفرين، الذي وضع عدة قوانين في الدستور التركي تعطي صلاحيات أكبر وأكبر للجيش للسيطرة على أي دوافع إسلامية في الدولة.لقد كانت حربًا ضروسًا شنّها قادة علمانيون كارهون للإسلام تمامًا، وزادوا في كراهيتهم للإسلام على الصليبيين واليهود، وإن كانوا يحملون أسماءً إسلامية!!في ظل هذه السيطرة العسكرية العلمانية نستطيع أن نفهم أن القرار في تركيا ليس خالصًا في يد رئيس الدولة أو رئيس الوزراء، وأنه ليس بالضرورة أن تكون مقنعًا حتى تنفذ ما تريد، بل إن الجيش يُملِي إرادته بصرف النظر عن الحُجّة والدليل، وهنا تصبح كل الرغبات الإصلاحية في مهبّ الريح إذا ما أراد الجيش العلماني أن يقف ضد الإصلاح.. ومِن ثَمَّ فعلى المحللين للأوضاع في تركيا أن يراعوا هذه الأمور عندما يتوقعون قرارًا من رئيس الوزراء أو غيره، كذلك عليهم أن يفهموا أن ارتباط الجيش التركي بالصهاينة هو ارتباط أيدلوجي فكري، وليس فقط قائمًا على المصالح. ولذلك فإنه إذا كان للعَلاقات التركية الصهيونية أن تنقطع فإن ذلك سيتطلب وقتًا كافيًا، إما لتغيير الدستور لتقليص سيطرة الجيش، وإما لتغيير الجيش نفسه!!كان هذا هو تدبير أتاتورك وحلفائه من اليهود والإنجليز والصليبيين، ولكن كان هناك تدبير آخر لم يطلع عليه كثير من المراقبين، وهو تدبير رب العالمين!إذ إنه مع كل هذا الضغط العلماني في الجيش والإعلام والتعليم والسياسة إلا أن الإسلام ظهر من جديد في هذه الدولة الإسلامية الأصيلة، وكان كنباتٍ أخضر جميل نبت في صخور صمّاء لا تبدو عليها آثار الحياة!كيف حدث هذا؟ وكيف تغيَّر الشعب؟ وكيف ظهر أربكان؟ وكيف وصل أردوجان لمنصب رئيس الوزراء؟ وماذا كان ردّ فعل المؤسسة العسكرية؟ وما هو المتوقع لمستقبل العلاقة بين رئيس الأركان العلماني ورئيس الوزراء الإسلامي؟!!هذه أسئلة تطول الإجابة عليها، وهي موضوع مقالنا القادم.ونسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين!!مزيد المقالاتأردوجان .. تركيا في مفترق الطرق العدالة والتنمية ينجو من الحظرأردوجان .. عملاق في زمان الأقزام !!

الجمعة، 30 يناير 2009


القوميون العرب: تاريخ أسود وفكر خبيث
GMT 12:00:00 2009 الجمعة 30 يناير
نضال نعيسة
-->نضال نعيسة
من المعلوم تماماً أن الفكر القومي هو النسخة المنمقة، والطبعة المعصرنة و"المشلبنة" للفكر السلفي البدوي الأصولي الذي هبّت رياحه العاتية من الفيافي والصحاري البدوية في القرن السابع الميلادي، وأحال معها كال تلك الحضارات والأمم المتاخمة التي دخلها إلى خرائب وأنقاض متهالكة تلوك أساطيراً مبهمة، وتجتر خطابات آفلة ممجوجة، لم يعد لها أية فاعلية تذكر سوى بعدها التاريخي الرمزي الأسطوري الخاوي القديم. وحين انزوى الفكر الديني خجلاً بعد سلسلة من التجارب الدموية الصدامية الفاشلة برز الفكر القومي ليحل محله، ولكن بحلة ورداء، وخطاب ملتو جديد. وتكاد دعوات الأحزاب القومية وهيئاتها وشخصياتها المختلفة وتنويعاتها المتعددة، لإحياء أمجاد العرب والحديث المسترسل المبهم الفياض عن الرسالة الخالدة، يتطابق تماماً مع فكر الجماعات الإخوانية والسلفيات الجهادية ورؤى ابن لادن والإمام البنا وسيد قطب تلكم الترجمات العربية للشيخ السلفي الهندي أبي الأعلى المودودي 1903-1979. ( لا ندري عن أية أمجاد يتحدث القوميون، ومتى كانت هذه الأمجاد بالضبط؟ اللهم إلا إذا كان إخضاع الناس بالسيف، واحتلال أراضيهم وتدمير الحضارات الأخرى، وتخريب النفوس والعقول، وإحياء العصبيات القبلية والعشائرية والعنصرية والطائفية والفئوية، وفرض لغة وثقافة ودين بالسيف على بشر آخرين وسبي نسائهم ونزع ممتلكاتهم وتغريمهم بالخوات والجزية وإعمال الحسام المهند في أعناقهم وتفجير شلالات الدماء، ومراكمة جبال الجماجم، وترويج ثقافة الموت والنحر والتكفير، والإشكاليات والانقسامات الأبدية والانهيارات القيمية والمعرفية التي خلفوها أمجاداً.
غير أنه، من الصحيح والمثبت تاريخياً، بأن هذا الفكر كان وراء إجهاض المشروع التنويري الحداثوي النهضوي في المنطقة الذي انطلق عقب انهيار امبراطورية الرجل المريض العثمانية الفاسدة التي استعمرت المنطقة أربعمائة عام تحت راية الفكر الغيبي الماورائي. وذلك حين انقضـّت مجموعة الضباط الأحرار المصرية الأخوانية على مقاليد الحكم في مصر التي كانت قد قطعت شوطاً طيباً في مسيرة الحداثة واللبرلة والتنوير وأعادتها- المجموعة- إلى سيرتها السلفية الأولى. وسرت تلك العدوى الفيروسية القومية العسكريتارية القاتلة، وانتقلت إلى معظم الكيانات السياسية الناطقة بالعربية، وبدأ الفكر التضليلي المسموم وسردياته المخدِّرة تفتك بالأبدان، كما بالعقول العربية، حتى وجد الشارع الناطق بالعربية نفسه، مرة واحدة، يواجه نكبة وراء نكبة، وكارثة تجرها كارثة، ومأساة تولد مأساة. استيلاء القوميين العرب بالقوة المسلحة على مقاليد الحكم في مصر، (كما فعل أسلافهم البدو الأعراب ذات يوم حين عولموا ثقافة الغزو تحت الرايات الإلهية)، وإنهاء الحياة البرلمانية، وتعطيل الدساتير وحكم البلاد بالحديد والنار والبساطير، كان في الحقيقة بداية الانهيار، والهجوم المعاكس، التي أعادت شنه القوى السلفية عبر التجرؤ، مرة أخرى، على خصوصيات وحريات الإنسان في العصر الليبرالي المحدث، وقتذاك، أي ما بعد رحيل المستعمر العثماني، ومن هناك عمـّموا هذا الأنموذج الرث، وانتشر السرطان القومي المستفحل في مختلف أمصار الأعاريب.
عجز الفكر القومي في توحيد العرب، برغم زعمه وجود عوامل جاهزة ومفترضة لقيام تلك الوحدة أثبتت الأيام قصورها وخواءها وعدم مواءمتها لمتطلبات الواقع وسيروراته الديناميكية المتحولة، أبداً، والتي تتطلب بالقطع أكثر من هذه الفكرة الرومانسية الوهمية الطوباوية الصماء. وفي الحقيقة، ما عجزت القاعدة، والجماعات السلفية والإخوانية عن تحقيقه، حتى الآن، في ترثيث وتحطيط وتمسيخ وتقزيم وتقبيح وترييف وتشحيح وتضحيل وصحرنة هذه المجتمعات، وإعادتها إلى أروقة ومناخات القرن السابع الميلادي، قد أفلح في فعله القوميون العرب. وها هي كيانات الأعاريب من المحيط إلى الخليج، تتجلى بأبهى حللها، وبمحاكاة مدهشة لما كانت عليه عبر التاريخ المجيد "ما غيره"، من فقر وفساد وجهل ولصوص وشيوخ ووعاظ مأجورين واستبداد وديكتاتوريات وانحطاط مرعب رهيب. فإذا لم تكن دولة العرب الأنموذجية على هذا المنوال الفظيع، فماذا عساها أن تكون؟ وأية دولة قومية عربية ستنتهي، حتما اليوم ولاحقاً، إلى دولة دينية فاشية كما هو الحال في العراق ومصر والجزائر والسودان وموريتانيا واليمن السعيد...إلخ.
هل لأحد أن يطلق العنان لخياله ويتصور ما كان قد آل إليه حال ما يسمى زوراً وبهتاناً بالمغرب "العربي" لولا فيروسات التعريب ووسواساتها الخناسة التي اجتاحته في النصف الثاني من القرن العشرين؟ وأين كان استقر اليوم لو تابع عملية "الفرنسة" و"الأوربة" والتغريب الحداثي، التي كانت جارية، يوماً ما، بدل البدونة والعربنة والتوهيب التي تسرح وتمرح، وتعصف اليوم فيه؟ هل ثمة أية مشروعية، وحق، للتساؤل هنا؟ ألا تقف طوابير طويلة من المهاجرين " المستعرَبة بفعل المد العربي" أمام سفارات الكفار واليهود والصليبيين للفرار من هذا الجحيم القومي المؤرق الرهيب؟ وما كان لها أن تفعل ذلك لو كانت هذه الأوطان نسخاً وفراديساً وجنات عدن كدول الغرب، تجري من تحتها ومن فوقها، وعلى جنباتها الرفاهية والبحبوحة والفرفشة وحقوق الإنسان وتنتشر في أرجائها الحريات العامة.
ليس من مصلحتنا، ولا من مهمتنا، البتة، ككتاب ونشطاء رأي، تجميل هذا النظام الرسمي البائس الفاسد البائد القبيح. وإن نقدنا وتشريحنا لمختلف الظواهر السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتراكمات الفكرية المترسبة في جذور هذا المجتمع العربي العليل، يأتي في إطار المحاولات المستمرة لضرورة إعادة هيكلة كل تلك البنى التي تآكلت بفعل الزمن والتقادم الطبيعي والشيخوخة التي ستصيب كل شيء، والاجترار التاريخي لمقولات وتجارب سلطوية وفكرية فاشلة. لإن هذا النظام الرسمي العربي، صنيعة القوميين العرب ومأثرتهم المفتخرة، هو الذي أورثنا كل هذه المهانة والذل والخذلان التاريخي وجعلنا أحط شعوب الأرض وفي ذيل أمم الأرض قاطبة في جميع الميادين الحياتية، لا يستأهل أي نوع من الشكر والمجاملة والتجميل والمحاباة بل النتف والضرب على قفاه على الطالعة والنازلة. ولن يلقى منا، بالطبع، أي امتداح أو ستر لعوراته، أو مداراة لعيوبه على الإطلاق. وإذا كان هذا يصب في مصلحة إسرائيل، أو غيرها، فهذه ليست مسؤوليتنا وليس مطلوب منا السكوت والتستر على ويلاته وموبقاته، ولا ذنب هذه النخب التي تقرع أجراس الخطر والإنذار، وترفع الصوت عالياً لدرء الفواجع القادمة والانهيارات الشاملة، وإنما مسؤولية نفس هذا النظام الرسمي العربي العاجز المريض الذي وضع نفسه في موضع الاتهام، ولم يعد يستطيع النهوض من كبوته التاريخية أو التقدم قيد أنملة والسير على الطريق الصحيح لإنقاذ هذه الشعوب المحبطة المسكينة التي تعاني الفقر والفاقة والتغريب الحضاري والفكري والريادي.
ومن خبائث الأحابيل القومية المعروفة، مثلاً، وكما يمارسها، تماماً، صنوها السلفي، هو تغذية العصبويات والوجدانيات الشعبوية الغوغائية الغرائزية الكامنة في الشيفرة الجينية للا وعي الباطني الجمعي العام للدهماء والرعاع والبسطاء والمتاجرة بها، باعتبارها بضاعة فكرية مؤدلجة وجاهزة، وطرحها للارتزاق والتكسب منها في السوق السياسي.
وما انطلاق تلك الفبركات المسمومة، التي طالت فيما طالت، بعضاً، ويالغرائب ومحاسن الصدف من مكون سوري بعينه، ومن حملة مشاعل التنوير المناهضة للمشروع السلفي، إلا من أوكار القوميين العرب، بالذات، بأمر غريب وجديد، وما هي إلا تعبير عن التصاقهم الفطري اللا إرداوي والغريزي الفطري بالفكر الأصولي، وجلاء لمكنوناتهم العدوانية المتأصلة لكل ما هو مبدع وخلاق وجميل ومتجدد وسام ونبيل. وهي انعكاس لطبيعة وماهية العقل القومي الحامل لعقدة التفوق العرقي المريضة، وثقافة الازدراء والتخوين، وتجسيد ملموس لانكشاف جوهر تكويناتهم العضوية ولانحباس وجفاف منسوبهم واحتياطهم الثقافوي، ونفاذ لمخزونهم الفكري ووقودهم الروحي الذي اعتاد لـَوْك تلك الكليشيهات التاريخية عن مجد العرب وحضارتهم الزائفة ورسالتهم الخالدة، والتي لم تكن في حقيقة الأمر سوى تدمير للحياة وللحضارة وللقيم الإنسانية النبيلة والجمالية في كل مكان وصلتها "آثار القدم الهمجية"، وبالإذنً من فيروز، ذاك الملاك الطاهر الرائع الجميل.
sami3x2000@yahoo.com

الثلاثاء، 13 يناير 2009


GMT 13:30:00 2009 الثلائاء 13 يناير
محمد الحمامصي
-->محمد الحمامصي
حوار شامل مع د. نصر حامد أبو زيد:

** المحصلة أن هذا الشباب الذي تقتله بشكل يومي ومنظم أين سيجد ملاذه؟ في الجماعات المتطرفة!!** أنت مجتمع "عمولي" يعتمد علي العمولات، أنت لا تؤسس بنية إنتاجية، وإنتاج الفكر لا يتم منفصلا عن الإنتاج في مجالات أخرى** ماذا يعني أن يوضع ملف المسيحيين أو المسيحية في يد الشرطة؟! ما معنى أن تسلم المواطن للكنيسة أو تسلمه للجامع، المواطن ينتسب لوطن؟!** الصراع الذي يرسم في العالم العربي بين الشيعة والسنة ليس صراعا فكريا وإنما احتقان اجتماعي** لدينا دعاة تنوير وليس صناع تنوير، وهناك فرق بين أن تدعو للتنوير وتهلل للتنوير وتقول يحيي التنوير وبين أن تصنعه ** أحد أساتذة الفلسفة سألني: كيف نطبق علي القرآن وهو كلام الله مناهج البشر؟ فرددت بتلقائية شديدة: هل تفترض أنني لابد أن أصبح إلها لكي أفهم كلام الله؟
محمد الحمامصي من الاسكندرية: المرة الأولي التي حاورت فيه المفكر الإسلامي د.نصر حامد أبو زيد كانت عام 1993 بمكتبه بكلية الآداب جامعة القاهرة، وكان يومئذ يتمتع بحضور قوي من خلال رؤاه وكتاباته المثيرة للجدل والنقاش سواء داخل أروقة الجامعة أو بين أوساط المثقفين والكتاب، ولم يكن قد دخل بعد معركته الشهيرة التي تحولت إلي معارك بين أكثر من تيار في المجتمع المصري، للأسف انتصر فيها التيار السلفي، لينتهي الأمر بخروجه من مصر ورفع كتبه من المكتبات العامة وحتى مكتبة الجامعة، لكنه بدءا من عام 2003 وبعد ثماني سنوات يبدأ في زيارة مصر مرة لزيارة أهله ومرة بدعوة من الجامعة الأمريكية، وها هي مكتبة الاسكندرية ممثلة في مركز المخطوطات برئاسة د.يوسف زيدان تستضيفه باحثا مقيما علي مدار خمسة عشر يوما، ألقي خلالها خمس محاضرات تناولت العديد من القضايا القرآنية والفلسفية الإسلامية الإشكالية منها القرآن في تأويله اللاهوتي: المعتزلة وحل إشكالية العقل والنقل، و القرآن في التأويل الصوفي، انفتاح المعنى من خلال التجربة.ود.نصر حامد أبو زيد له ما يزيد عن عشرين كتابا جلها يناقش قضايا إشكالية مهمة، من هذه الكتب: الاتجاه العقلي في التفسير، دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة ـ فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي ـ أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السميوطيقا ـ مفهوم النص؛ دراسة في علوم القرآن ـ إشكاليات القراءة وآليات التأويل ـ الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية ـ نقد الخطاب الديني ـ المرأة في خطاب الأزمة ـ التفكير في زمن التكفيرـ الخلافة وسلطة الأمة ـ النص، السلطة، الحقيقة ـ دوائر الخوف: دراسة في خطاب المرأة ـ الخطاب والتأويل ـ هكذا تكلم ابن عربي ـ اليسار الإسلامي: إطلالة عامة، وغيرها، فضلا عن المقالات باللغتين العربية والإنجليزية والمراجعات والترجمات.

** بعد ما يقرب من 14 سنة مما حدث لك في مصر سواء في الجامعة أو دعوى التفريق بينك وبين زوجتك أو والارتداد ومعارك فكرية تشابكت فيه الآراء والأفكار.. كيف تنظر إلي تلك الفترة وما عانيت خلالها؟ وبماذا تفسر هذا الذي حدث؟ ** المجتمع المصري كان في حالة احتقان وفي حالة غليان ومنقسم إلي معسكرات، وكان بحاجة إلي معركة، في هذا الوقت كان الإرهاب أو ما يسمي بالإرهاب تخطى حدود الصعيد التي لم تهتم بها الحكومة كثيرا ووصل إلي العاصمة، وتمثل ذلك في اغتيال رئيس مجلس الشعب وقتئذ في عز النهار أمام فندق، ثم اغتيال فرج فودة، ثم الاعتداء علي نجيب محفوظ، كل ذلك كان ممتدا إلي الجامعة، فالمجتمع وقتئذ كان يريد دخول معركة، معركة بين تيارين في المجتمع، وقد جاءت مساءلة الترقية إلي أستاذ في هذا السياق، وكانت كما يبدو الفرصة التي أراد المجتمع كله تصفية حساباته فيها، وتصادف أن الترقية كانت خاصة بشخص هو نصر حامد أبو زيد، وهو شخص لم يكن مشغولا أن يصبح بطلا، ولا أن يستفز أحدا، ولا عنده أوهام أنه المجدد والمستنير، كان راضيا بمساءلة كونه باحثا ومعلما، ومازلت حريصا علي هذه الصفة، صفة الباحث والمعلم، كان جزءا من المعركة حقيقيا، وهذا هو الجانب الذي كنت أخوضه، معركة ضد مصادرة الحريات في الجامعة، هذا أمر كان بالنسبة لي الأمر الكثير، يعني كنت مستعدا من أجله أن أخوض معركة واثنتين وثلاثة وعشرة مع داخل الجامعة، ومستعد الآن لخوض هذه المعركة لعشرين مرة، لأن الجامعة بالنسبة لي ليست مجرد اختيار الأسرة، لا، كان دخولها حلمي، تخرجت كما تعلم بدبلوم صنايع نتيجة ظروف عائلية، حلمي كان أن ألتحق بالجامعة، كان حلما مبكرا، كنت أريد دخول الجامعة و لم أكن أعرف الفرق بين محمد عبده وطه حسين، أبي رحمه الله أدخلني الكتاب لحفظ القرآن لكي أكون مثل محمد عبده، حفظت القرآن، وأدرك أبي أنه علي وشك الموت وأن "سكة" الأزهر طويلة قياسا للتعليم العام، فكان أن قرر تحويلني من التعليم الديني إلي التعليم المدني، وأذكر الحوار الذي دار بين والدي وأصدقائه:" يا شيخ حامد التعليم الديني سكته طويلة، علي ما يتخرج ويبقي شيخ، ثلاثين سنة "، في هذا الوقت كانوا يتخرجون متزوجين، التعليم المدني كانت سكته قصيرة، حولت للتعليم المدني والتحقت بمدرسة خاصة، لأن سني كان أكبر من أن تقبلني المدرسة الحكومية، وقبيل حصلي علي الإعدادية كانت المرض اشتد علي أبي، فقرر أن يلحقني بالثانوية الصناعية لأسباب عملية، لكن الحلم الطفولي بالالتحاق بالجامعة لم يغادرني، فبعد حصولي علي دبلوم الصنايع ثم عملي، ذاكرت وحصلت علي الثانوية العامة ودخلت الجامعة التي طالما حلمت بها، ومن ثم لن أسمح لأحد علي وجه الأرض أن يأخذ منى حلم جامعة حرة، أنا رجل ضعيف لا أملك غير كلمتى، وإذا تتبعت كتابتي سوف تجد ذلك، لكن المجتمع المصري كله كان يريد معركة والمجتمع كله دخل المعركة، أنا دخلت المعركة من أجل الحرية الأكاديمية وحرية البحث العلمي في الجامعة، لكن المعركة خرجت عن حدود الجامعة، وهذا أمر لا أدينه، لأن الجامعة في النهاية جزء من المجتمع، الجامعة ليست أسوارا مغلقة يجب أن يتم فيها كل شيء بعيدا عن المجتمع، الجامعة عقل المجتمع، وإذا أصيب عقل المجتمع بالخراب فحدث ولا حرج، وهذا ما هو حادث الآن، ما يحدث الآن أن الجامعة حلم المجتمع المصري انطفأ، المجتمع المصري الناهض أنشأ الجامعة، محمد عبده وقاسم أمين أنشأوا الجامعة الأهلية، الآن الحلم انطفأ، لكني جزء من هذا الحلم الذي لا أريده أن ينطفئ.المصادفة التاريخية أنني عانيت، من أجل ذلك عندما أنظر لهذه الأيام أتألم، لا أستطيع إنكار أنني تألمت في تلك الفترة، وهذا الألم منعني من أن أزور مصر لمدة ثماني سنوات، ألم وزعل وغضب، استغرق منى ثماني سنوات، خرجت عام 1995 وأول زيارة لي كانت عام 2003، أول زيارة كانت بداية أن أقول إن الألم والزعل لا ينبغي أن يكون من الوطن، وإلا فأنت توحد الوطن بالذين تسببوا في الألم والزعل، لذا قدمت أول زيارة لأهلي، ذهبت إلي الجامعة من باب أنني كنت قد بلغت الستين وبنصيحة د.حسن حنفي ينبغي أن أذهب لتسوية معاشي رسميا حتى يمكنني أن أعين أستاذا متفرغا، قال حنفي"لأنه لو سويت معاشك وأنت خارج البلاد ستفقد هذا الحق "، ومنذ هذه الزيارة عام 2003 وحتى الآن حصلت مصالحة من جانبي.

** خلال الثماني سنوات التي لم تزر فيها مصر وحتى أول زيارة، حتما كنت تراقب ما يحدث في مصر وتتابع، كيف ترى المشهد الآن وأنت في مصر وبعد عدة زيارات قصيرة لكنها زيارات مكنتك من رؤية ما يحدث؟ ** في هذا العصر الحادي والعشرين ليس هناك أحد بعيد، فكرة المكان اختفت، أنت كل يوم تفتح الإنترنت وتقرأ كل الجرائد المصرية والعربية، وتتحاور عبر الإيميل والتليفون أيضا، والكثيرون يزورون أوروبا فتلتقي بهم، فلست بعيدا عما يحدث في مصر، ما يحدث في مصر يحدث في العالم العربي بشكل عام فيما يرتبط بقضية الدين والمعنى الديني، هناك فساد، والفساد يطال كل جوانب المجتمع، لم تعد المشكلة تتفق مع من وتختلف مع من؟ أصبحت المشكلة من الفاسد ومن غير الفاسد؟ أصبحت المسألة أن تقف ضد الفساد مع كل من يقف ضده، وأصبح تقييمي للأشخاص ليس تقييما بما يكتبون، أصبح تقييمي بسلوكهم، أنت جزء من نظام الفساد أم تقف ضده؟ يمكن أن تكون جزءا من نظام الفساد ولا تعي ذلك؟ يعني عندما يطرد أستاذ طالبا من مكتبه، لأن هذا الطالب لا يقدم له فروض الولاء والطاعة، هذا الأستاذ مع الفساد، حتى وإن كان هو نفسه أخلاقيا غير فاسد، وقصص كثيرة، عندما آتي ألتقي بالشباب داخل الجامعة وخارجها، عرفت ما الخراب الذي أصاب الجامعة وأصاب المجتمع، آخر ندوة حضرتها في الجمعية الفلسفية داخل جامعة القاهرة لم أقل بحثا ولكن قلت صرخة ضد الفساد والاستبداد، صرخة لإنقاذ المجتمع، لا تستطيع إنقاذ الجامعة والمجتمع غارق في الفساد، أنا يؤلمنى أشياء كثيرة جدا، ربما لأنك تعيش داخل المجتمع لا تراها، ولأنني لا أعيش فيه أراها، من يعيش في المجتمع يري للفساد الذي ينشر عنه في الصحف، غرق العبارة والدم الفاسد والقطارات التي تحترق، والمسرح ,غيرها، لكن إلي جانب هذا الفساد الذي يؤذيني، يؤذيني أكثر أن البرلمان المصري ينشغل لشهريين بقضية الحجاب، كل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الموجودة في المجتمع المصري، برلمان وطن كامل مشغول عنها بعبارة قالها وزير عن حق أو عن باطل، وتصبح قضية مجلس الشعب والنظام السياسي أن يتوب الوزير، أنا طبعا من بعيد أكاد أصاب بالجنون، معرفتك بمشاكل مصر ومشاكل المواطن والقتل اليومي، القتل القتل بالمعنى المادي، كم من الشباب والشابات في المجتمع المصري يحرمون من فرصهم وكفاءتهم لأسباب: أنه من يعين معيدا لابد أن يكون ابن أستاذا، ومن يعين كذا ابن طبيب، فساد الواسطة، أن البنت لا تعين في وظائف معينة لأنها محجبة، بينما خطابك السياسي يقول إن الحجاب فريضة، هذا يصيبني بالجنون أن أري هذا القتل اليومي " بيتم يوميا ـ اللي عايش هنا ما يخدش لباله منه ـ يتم بشكل يومي" ويكاد يكون قتلا منظما.المحصلة أن هذا الشباب الذي تقتله بشكل يومي ومنظم أين سيجد ملاذه؟ في الجماعات المتطرفة، المجتمع يحرمه لأنه مثلا متدين، المجتمع يحرمها لأنها تلبس الحجاب، في حين قد يكون هذا الشاب أو هذه الفتاة تملك من المؤهلات ما يجعلها جديرة بالحصول علي فرصة متميزة.أنا رجل الناس كلها تعرفني أنني ناقد للفكر الديني، ولكنى لست ضد التدين، وأتمني ألا أرى مفكرا ضد التدين، أنت ضد استخدام الدين وتوظيف الدين.. إلخ، كل هذا يصيبني ـ علي رأي أمل دنقل ـ بالعطب.

** هناك قضية لم تتطرق إليها ألا وهي قضية الطائفية، هل تعتقد أن مصر دخلت صراعا طائفيا فكريا إذا جاز التعبير بين شقيها الإسلامي والمسيحي؟** ليته فكريا، كنت أتمني أن يكون فكريا، أتمنى أن ندخل في أي قضية فكرية، لا، ليس صراعا فكريا، ولا الصراع الذي يرسم في العالم العربي بين الشيعة والسنة صراعا فكريا، هو احتقان اجتماعي، تهميش لفكرة المواطن، لأنها فكرة تتناقض مع نصوص كثيرة في الدستور، وسياسات متراكمة، إنني أعيش في هولندا في بلد تضم أربعة كنائس قبطية، وما يحدث في أي قرية مصرية يجرح الناس في هذا البلد، ردود أفعالهم لا أستطيع أن أصفها بالعقلانية، يعني ما حدث في الإسكندرية منذ عامين، وأنا أدعى في الأنشطة الثقافية للكنيسة وانتقد الأقباط، عندما أذهب في ندوة دعي إليها الأقباط ولا أجد أي امرأة، أقول لهم: لا، الموقف من المرأة ليس له علاقة بالإسلام ولكن له علاقة بالعقل المصري، أين نساؤكم؟، ندوة لا توجد بها امرأة واحدة، في حين أنني عندما ذهبت لهولندا وذهبت إلي ندوة حضرتها سيدات وفتيات وشباب صغار، فهذا التحول الذي يحدث يحدث في المجتمع كله ومن ينتمون إليه في الخارج، المجتمع ضد المرأة، لكن أقباط هولندا يتقبلون هذا الانتقاد، لأنهم يعرفون أنني لست متعصبا، وموقفي النقدي ليس موقفا متعصبا "بيطبطب علي المسلمين وينتقد الأقباط"، هنا في مصر يوجد نوع من الطبطبة، وهناك نوع من الشماتة بين بعض المفكرين، يعني إن قام الأقباط بالهجوم علي أحد ينبسط الإسلاميون، وهذا يوجد حتى في هولندا، وواحد زميل في هولندا من العلمانيين التنويريين المتطرفين الذين يكرهون الأديان كتب مقالا قال فيها كلاما فارغا عني، المسلمون بسببها بدأوا يحبونني، لأن فلان يهاجمني، يبقي أنا لازم أكون كويس، لا ليس ذلك ضروريا، ليس هناك منطق، ما يحدث في مصر مخيف، مخيف، مخيف، أن المواطن المسيحي أصبح يحتمي بالكنيسة ولا يحتمي بالقانون ولا يحتمي بالوطن، فكرة الوطن غائبة عنه، فكرة الوطن غائبة عن الشباب، هناك تهميش واسع بسبب الفساد، هناك تهميش علي مستويات واسعة داخل كل مؤسسة، هذا مخيف، ومخيف لأنه إذا تم تفكيك النسيج فأنت مهدد بدويلات طائفية، يعني لا تستغرب إذا قال لك أحدهم عاوزين دولة للأقباط وتبقي قضية في الأمم المتحدة، والنظام لا ينظر إلي هذه المشكلة بأي مستوى من مستويات الجدية، ماذا يعني أن يوضع ملف المسيحيين أو المسيحية في يد الشرطة؟! لقد تابعت قضية وفاء قسطنطين، ما بقتش فاهم، ما بقتش فاهم حقيقي، ما معنى أن تسلم المواطن للكنيسة أو تسلمه للجامع، المواطن ينتسب لوطن، كل هذا وجع أعيشه، أكتب أحيانا كثيرة فيه نتيجة تفاقم إحساسي بأوجاع الوطن.

**علي الرغم من الجهود الفكرية الكبيرة التي تبذل من قبل مفكرين مستنيرين بارزا منذ أوائل القرن العشرين وحتى الآن مطلع الألفية الثالثة لا زال العالم الإسلامي أسيراً في معظم سلوكه أسيراً للنص الديني والنص التراثي.. لماذا؟** لأنه لم يصنع التنوير، هناك دعاة تنوير وليس صناع تنوير، هناك فرق بين أن تدعو للتنوير وتهلل للتنوير وتقول يحيي التنوير، يحيي قاسم أمين، يحيي محمد عبده، يعيش نصر أبو زيد، فرق كبير جدا أن تفعل ذلك وتتحول إلي مردد هتافات وشعارات، مثل ما يفعله الإسلاميين حول ابن تيمية وسيد قطب، هتافات، وبين أن تصنع تنويرا يطال كل جوانب المجتمع، ليست هناك صناعة للتنوير بمعنى الانخراط في عمل ثقيل لتأسيس ما يسمى بالفكر التنويري، من أين يبدأ تأسيس الفكر التنويري؟ يبدأ من المفكرين ويدخل في التعليم و يقوم الإعلام بدوره، الذي صنع التنوير في أوروبا ليس الفلاسفة ولا العلماء، هؤلاء مشغولون بالكتابة والعلم، الذي صنع التنوير هم هؤلاء الذين قرأوا كلام الفلاسفة عبر الإعلام بمؤسساته الصحفية الناشئة، قرأوه عبر كتابات فهمت داروين مثلا، داروين لم يكن مشغولا لا بالكتاب المقدس ولا بالكنيسة، لم تكن تلك قضيته، كان مشغولا بتحليلاته الجيولوجية، أحدهم قرأ كتابه، وقال إن ذلك يعمل مشكلة مع ما تقوله الكنيسة، فكتب وقرأ الناس وحدث نقاش داخل المجتمع، والكنيسة عملت رد فعل، في مناخ يحمل إمكانية حدوث هذا النقاش، وهذا ما صنع التنوير.صناعة التنوير تبدأ من التوقف عن القتل المستمر للمواهب، هذا جزء من صناعة التنوير أن أدفع عن شاب أو فتاة تحرم من حقها في الاستمرار في تحقيق ذاتها، ودخول معارك ضد الفساد، دخول معارك من أجل ترسيخ الديمقراطية، معارك حقيقية، والانخراط في قضايا مجتمعية، طبعا هناك مؤسسات مجتمع مدني تعمل عملا ناجحا لكنه جزئي لأن عملها كله في العاصمة، حتى المؤسسات الثقافية التي يمكن أن تساهم في صناعة التنوير في تصب عملها بالقاهرة، وما يسمي بالوطن المصري في الوجه البحري والصعيد بعيد عن محاولة صناعة التنوير.لذا نعود إلي القضايا التي تصورنا أن الرواد قد طرحوا حلولا ناجزة لها سواء في النص الديني أو في الفقه أو في التراث، نعود لها مجددا، لو أنت عملت ملاحظة علي ما يدرس في الأزهر ستجد أن الطالب يتخرج في كلياته لا يعرف شيئا عن التراث، لأنه يدرس مذكرات الأساتذة، ولو دخلت جامعة القاهرة أو الإسكندرية أو.. إلي أي حد الطالب الذي يتخرج من قسم الفلسفة يعرف أبو العلا عفيفي، يعرف الأستاذ الذي درّس له فقط، إلي حد الطالب الذي تخرج في قسم اللغة العربية يعرف طه حسين أو أمين الخولي أو شكري عياد أو..، لا يعرفهم، يعرف فقط الأستاذ الذي درّس له، من يعرف نصر حامد أبو زيد يعرفه من الإعلام لا من خلال المؤسسة، المؤسسة رفعت كتبي من المكتبة، وأيامها قلت أن هذا هو السحل الحقيقي، أن ترفع كتبك من أرفف مكتبة جامعة القاهرة فهذا هو السحل الحقيقي، بعد ذلك كله قال من قال: مش أنا، رئيس الجامعة قال مش أنا، والعميد قال مش أنا وهكذا.التنوير صناعة ثقيلة لا تقل عن التصنيع في المجتمع،أنت ليس عندك تصنيع، ولا صناعة، عندك اقتصاد يعتمد علي الفهلوة، أنت ليس عندك بنية صناعية اقتصادية، ليس عندك مؤسسات تعمل صناعة إنتاجية في المجتمع، كلها صناعات شبيسي وكوكولا و..و.. و..، نشأ التنوير مع المجتمع التجاري الذي تحول إلي مجتمع صناعي، أنت مجتمع "عمولي" يعتمد علي العمولات، أنت لا تؤسس بنية إنتاجية، كلمة إنتاج هنا كلمة مهمة جدا، لأن إنتاج الفكر لا يتم منفصلا عن الإنتاج في مجالات أخرى، ومن هنا الكلمة الرائعة التي يرددها دعاة التنوير طوال الوقت من دون أن يحللونها: ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة بيننا، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع، نحن نتحدث عن الحرية والفكر طوال الوقت ولا نتحدث عن المصنع، طبعا الحرية شرط الفكر ,الفكر شرط المصنع، وإلا يسقط المصنع.

** في ضوء هذه الرؤية يتضح اللافعل لا لمفكرين ولا لمثقفين ولا حتى لمعلمين داخل الجامعات والأكاديميات العربية؟** لا، المفكرون، والمثقفون بالمعنى النقدي أقلية في المجتمعات الحديثة كلها، أقلية يمكن أن يكون لها تأثير أو لا يكون لها تأثير، يمكن أن يكون لها تأثير لو أن المؤسسات الثقافية والتعليمية تأخذ الفكر مأخذ الجد، هنا الحلقة المفقودة، إذا هذه المؤسسات الوسيطة تأخذ الفكر مأخذ الجد، ينتشر هذا الفكر ببطء لكنه ينتشر ويخلق نوعا من الحوار في المجتمع، هذا ليس موجودا، فماذا سيفعل المفكر أو المثقف سيقدم كتابا أو يلقي محاضرة، يتوقع أن يناقش كتابه مناقشة حقيقية وليس نقاشا / مديحا مدفع الأجر، نحن نتكلم عن جهاز إعلامي أو تثقيفي يصنع ثقافة حقيقية عبر مناقشة هذا الكتاب أو ذاك، أنت لديك إعلام علاقته بالثقافة علاقة تجميلية، هناك بعض البرامج الجادة لا أنكر ذلك لكن العلاقة تجميلية، يعطي للتليفزيون صورة حلوة، لكنه ليس سياسة في استراتيجية الجهاز الإعلامي، الجهاز الإعلامي في العالم العربي كله هو ارضاء الجمهور، شهر رمضان ظاهرة لا تحتاج إلي تعليق منى.

** ولماذا انصب اهتمامك على النص القرآني تحديداً؟ ** لأن هذا هو النص المؤسس بامتياز لكل ما أتي بعد ذلك من نصوص، النص الذي لا نص قبله، كان قبله الشعر، لكن هذا هو النص الذي حل محل الشعر، وإن عدم الاقتراب من هذا النص واعتباره بمنأى عن الدراسة التحليلية التاريخية والفهم هو ما يمكن أن يفسر لنا ما يسمى التقهقر الدائمة في حركة الإصلاح الفكري، أنها لم تدخل في جذور الأمر، ظل المشروع يتناوبه التأويل والتأويل المضاد، ووعي بهذا أن التأويل والتأويل المضاد لابد أن يجعلنا نطرح سؤالا: عما نتكلم بالضبط؟ إذا كان هذا التأويل صحيح، وهذا التأويل صحيح فلابد أن هناك مشكلة في فهمنا لطبيعة هذا النص، إذا كان مرة اشتراكي ومرة قومي ومرة عروبي ومرة أممي و..، و.. إن عدم الدخول في هذه المنطقة التي اعتبرت منطقة غير قابلة للدخول فيها بمنهج التحليل التاريخي أو النقدي، يعنى أنه لن يحدث تطور حقيقي في الفكر، سيبقي التطور فيما يسمى النتائج وليس في التعامل مع الجذور، طبعا هنا ليس هناك أي نية لقطع الجذور وتدميرها، إنما المسلمون طوال تاريخهم منذ عصر الخلفاء الراشدين عندما تكون عندهم مشكلة يعودون للقرآن، لم يحدث في سقيفة بني ساعدة لكنه حصل في الحروب الأهلية، ونحن نواصل هذا التراث، كلما واجهتنا مشكلة نعود للقرآن، لكن لم نطور نظرتنا للقرآن بحيث نستطيع أن نجد الإجابات الملائمة لعصرنا، ونكتفي بالإجابات الذين سبقونا، الذين سبقونا كانوا أشجع منا طوروا نحن عاجزين عن تطويرها، وهذا ما كان يدور في فكري، الرجوع إلي القرآن يحتاج إلي تطوير الأدوات، لا نكتفي بالأدوات التي قدمها أسلافنا، وإنما نحتاج إلي تطوير أدوات، ولن يتحقق تطوير الأدوات من غير أن نعيش المعرفة المعاصرة، كما عاش أسلافنا الحياة المعاصرة في زمنهم، وهذا ليس أمرا إدا.في جامعة الإسكندرية عندما جئت أقاموا ندوة حول كتابي مفهوم النص، وأحد أساتذة الفلسفة سألني سؤالا: كيف نطبق علي القرآن وهو كلام الله مناهج البشر؟ فأنا بتلقائية شديدة قلت: هل تفترض أنني لابد أن أصبح إلها لكي أفهم كلام الله؟ قدري أنني إنسان وليس عندي غير مناهجي التي أبدعها وأطورها، وهذه المناهج تجعلني أفهم كلام الله، فصفق الطلاب الأمر الذي جعلني أشعر بالحرج، أنني أحرجت الأستاذ، لكن الأستاذ كان من سعة الصدر بحيث رد: لقد كنت أريد أن أسمع منك هذه الإجابة ولم أحرج بل صفقت لك كما صفق الطلاب.هذا كلام الله وكلنا يؤمن بذلك، لكن ليس أمامنا وسيلة لفهم كلام الله إلا بأدواتنا كبشر، وأدواتنا كبشر تتطور، وهذا يجعل هناك إمكانية أن يتطور المعنى الديني بتطور معرفتنا، ومن هنا لابد أن نضع في اعتبارنا دور البشر في إنتاج المعنى الديني، الفكر السائد اليوم أنه ليس هناك بشر ينتجون المعنى الديني، وأن المعنى الديني الذي أنتج في العصور السابقة أنتجه ملائكة، وهذا يفسر لك سر الهجمة الشرسة لأنني تكلمت علي الإمام الشافعي، كيف تتكلم عن الإمام الشافعي؟ الإمام الشافعي هنا أصبح مقدسا، هذه كلها مشاكل.أنا أعتقد أنه لم تحدث مقاربة وتطوير أدوات لفهم النص الديني تقوم علي معرفة تاريخه ومعرفة بنيته ومعرفة الفضاء اللغوي الخاص به، سنظل نأخذ رأيا من هنا ورأيا من هناك ونقول إن هذا تفسيرا جديدا، حسب مزاجنا، أنا رجل تنويري أخذ ابن رشد والمعتزلة و.. و..، أنا رجل لست تنويرا آخذ ابن تيمية، ابن تيمية والمعتزلة علي عيني وعلي رأسي، لكن أن أسجن عند أحدهم فهذا ضد تاريخ الفكر الإسلامي كله.

** (الفكر الإسلامي متجمد منذ عهد ابن رشد) مقولتك، أليس في ذلك ظلم بين لعلماء مفكرين أسهموا إسهامات جادة في الفكر الإسلامي خلال القرن العشرين من بينهم الشيخ محمد عبده؟** في الفكر الفلسفي، لا، الشيخ محمد عبده كتب رسالة التوحيد وهي محاولة لفتح إطار علم الكلام، وأنا لم أنكر دور محمد عبده ولا يمكن إنكار دوره، بالعكس أقول إن محمد عبده لم يقرأ ومازال بشكل جيد، إنما تجربة ابن رشد تمثل تصحيحا لمسار الفلسفة الإسلامية من وجهة نظره، باعتبارها خلطت بين أفلاطون وأرسطو والمشائية والغنوصية.. إلخ، هناك جانب معرفي عند ابن رشد قد تتفق معه أو قد تختلف معه، لكن هناك جانبا مهما أنه أضاف بعدا لتعامله مع النص الديني كونه فقيها وفيلسوفا وطبيبا وهذه ثلاث سمات لا يمكن فهم ابن رشد إلا إذا وضعناها مع بعضها.لقد قصدت الفكر المشتبك مع الماضي والذي يعيش العصر، وهذا لا يعني عدم وجود مفكرين، وكما قلت المفكرون أقلية وليس هناك أي محاولة لتحويل هذا الفكر إلي معرفة، هناك محمد عابد الجابري، الطيب دزيني، حسن حنفي، لكن معرفة ما يقدمونه لم تتحول إلي معرفة شائعة، التجمد هنا لا يعني عدم وجود بؤر حيوية هنا وهناك، التجمد هو الظاهرة المرئية في ظل الديكتاتوريات وغياب حريات.

** بماذا تفسر هذه العلاقة الوثيقة والراسخة بين السياسي والديني في عالمنا الإسلامي والتي ترتبت وتترتب عليها الكثير من إشكاليات هذا العالم؟** الحقيقة أن إشكالية العالم العربي لا تترتب علي ذلك، لأنه السياسي والديني مسألة معقدة جدا، المشكلة السلطة السياسية والسلطة الدينية، وليس السياسي والديني، لأن السياسي بالمعنى العام هو جزء من الحياة.

** معذرة كنت أقصد السلطة السياسية والسلطة الدينية؟** السلطتان السياسية والدينية بالفعل يشكلان مشكلة حقيقية في العالم العربي، لكن في العالم الإسلامي الأمر مختلف، فعلي الرغم من أنه نظريا لا توجد في الإسلام سلطة سياسية لكن تاريخيا ـ وهذا هو الفارق بين الكلام النظري والتاريخ ـ كانت هناك سلطة سياسية استطاعت في عصر الدولة العباسية بطرق شتي ملتوية أن تجمع في يديها السلطتين السياسية والدينية، وأن تحول الفكر الديني إلي جزء من مؤسسة الإمبراطورية. فهذا التوحد بين السلطتين له أسباب تاريخية مرتبطة بجانبين أولهما أنه وقتئذ كان هناك الصراع مع الإمبراطورية البيزنطية، فقد انتهت الفتوحات وتم الدخول في منطقة التجاذب والتناحر والكر والفر، فالحدود أصبحت تنتهك من الجانبين، وهذا صراع يخلق توترا ويعطي للسلطة السياسية مبررات هائلة من أجل أن تعتقد أنها تدافع عن الدين وعن الحمي وعن.. وعن..، الحروب دائما تسبب هذا وبالذات في عصر الإمبراطوريات، وهذا حدث في الأندلس بنفس الدرجة، أن الأندلس طوال الوقت تعيش مسألة الحروب الريكونكسته "التحرير ضد الملوك المسيحيين". إلي أي حد هذا الوضع تغير، العالم دخل في الحرب الصليبية، والمفروض أن العالم الإسلامي انتصر في هذه الحروب، لكن انتصار الحروب يمكن أن يخلق نتائج غير إيجابية، أوروبا أفاقت بسبب الحروب الصليبية وبدأت الخروج من العصور الوسطى لأنها واجهت مجتمعات متحضرة، وعندما تقرأ تاريخ أسامة بن منقذ وترى انطباعات الجنود الصليبيين عندما دخلوا المستشفيات دهشوا للمستوى، ومن ثم الحروب الصليبية أدت إلي يقظة أوروبا وإلي نوم العالم الإسلامي علي الرغم من أن النتائج العسكرية مختلفة، النتائج العسكرية لا تفسر لك كل شيء، ومع حالة السبات الطويل للعالم الإسلامي وعدم الاحتكاك تخلّقت أوضاعا أشبه أن تكون "أمر الله"، هذا هو المجتمع، الذي حدث أن المجتمعات الإسلامية أفاقت مع الغزو الأوروبي، لكن الغزو الأوروبي أيضا عمل تأثيراته السلبية علي مسار هذه الإفاقة، يعني أوروبا رجعت مهزومة وأصيبت بالإفاقة وأخذ الإفاقة أبعادا مختلفة نسميها عصر النهضة، الإصلاح الديني،.. إلخ، إذن الإفاقة الأوروبية ليست إفاقة مصدومة، هي مصدومة بالهزيمة، لكن إفاقة تم تطويرها طبقا لآليات داخلية وصراعات أوروبية أوروبية، وبالتالي دخلت في الطريق الصحيح، وصححت أخطاءها، وانتقلت انتقالات طبيعية.الإفاقة في العالم الإسلامي جاءت علي عدو قاهر ظالم لابد أن تحاربه، ومعلم لابد أن تتعلم منه، وما تزال هذه الأوضاع موجودة، علاقة العالم الإسلامي بالعالم حوله علاقة ملتبسة، وسؤال النهضة: لماذا تقدم الأوروبيون وتخلفنا؟ فأنت تقيس تقدمك وتخلفك علي التقدم الأوروبي، لكن مسألة الصورة الملتبسة، العدو الذي يجب أن تحاربه وتحتاج إلي السلاح الذي ستحاربه به وتستورد هذا السلاح منه، والمعلم الذي قدم إنجازات إنسانية ولابد أن تتعلم منه، يتوقف الأمر في تاريخ العالم الإسلامي الحديث علي أي البعدين له الحضور الأكثر، أن تتعلم أم أن تحارب، لكن ثنائية التعلم والحرب خلقت مشكلة الانتقائية في أن لا تقبل التقدم كما هو إنما تأخذ اختيارات منه، وأصبح هناك تقدم يناسبك وأخر لا يناسبك، بناء علي هوية كاذبة خلقها الاحتلال في المحتل وهي الهوية الدينية، الهوية الإسلامية بدأت تستيقظ مع وجود الآخر الذي صنف باعتباره صليبيا ومسيحيا، يعني ذكريات الحروب الصليبية، والآخر دخل هذا العالم باعتباره عالما إسلاميا دون تمييز بين مسلم هندي ومسلم في جنوب شرق آسيا ومسلم في الشرق الأوسط، الصراع كله قائم علي مفهوم العالم الإسلامي، هذه الهوية الدينية ليست نابعة من تفكيرك المستقل وإنما هوية: الآخر طلب منك وضربك بالقلم وقال لك أنت مسلم وأنا لا أحبك لأنك مسلم، إذا حللت خطاب هنيتجيون وخطابات كثيرة جدا جوهرها أن مشكلة العالم الإسلامي أنه مسلم، وأن خلاص العالم الإسلامي وتقدمه: " أن يفض حكاية الإسلام هذه كما فضت أوروبا حكاية المسيحية "، حدث خلط رهيب جدا بين الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية وبين الفصل بين الدين والمجتمع والعالم، بما أن هذه الهوية فرضت عليك فأنت لا تريد أن تنكرها لكن تريد أن تقول ليس هذا هو سبب تخلفي، جواب النهضة من أول الأفغاني و محمد عبده وحتى حسن البنا أن الإسلام ليس مسئولا عن تخلفنا، المشكلة أننا لا نفهم الإسلام، نريد الرجوع ونعيد فهم الإسلام كما فهم الأسلاف، الأسلاف فهموا الإسلام جيدا وعملوا حضارة، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، هذا عمق خطاب الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين، الخطاب هنا يعني أن مشكلتنا أننا لا نفهم الإسلام، إذن الحل إبداع فهم للإسلام، في إبداع هذا الفهم ظل النص القرآني بمنأى، هناك إعادة نظر لكن دون أن تغير رؤيتك للنص القرآني، فأصبح الأمر اختيار معنى، هذا السؤال سؤال النهضة حدث له تحوير من مسألة: لا، مشكلتنا ليست في الإسلام ولكن في عدم فهم الإسلام والحل هو فهم الإسلام، مع حسن البنا وإلغاء الخلافة التركية التي خلقت أزمة أخرى في الهوية، أزمة سياسية قوية، وأزمة ارتبطت بأن الكماليين عملوا خطوتين الخطوة الأولي فرح بها العالم الإسلامي جدا ما عدا الهند وهي الفصل بين السلطنة والخلافة، وبعدها بشهور الغيت الخلافة وكان رد الفعل في العالم الإسلامي كان علي النقيض في موقفه من أتاتورك، وجد العالم الإسلامي نفسه عاريا من وحدة كانت خيالية أكثر منها حقيقية، وهنا تجد أن جماعة الإخوان المسلمين نشأت عام 1928، السؤال الخاص بإعادة الفهم الذي نسميه سؤال الإصلاح الديني السلفي، أصبح إجابة تانية لنفس السؤال: إننا فعلا متخلفين، هكذا اعترف الأفغاني واعترف محمد عبده، ومتخلفين ليس لكوننا لا نفهم الإسلام، وأصبحت الإجابة: فعلا نحن متخلفين لأننا لم نصبح مسلمين، وهذا في رسائل حسن البنا، فانتقلنا من أننا "مسلمون بس فهمنا وحش وعاوزين نتعلم، إلي: لا، القضية ليست أن فهمنا وحش للإسلام، داحنا أصلا بعدنا عن الإسلام، لابد من الرجوع إلي الإسلام، الإصلاح الإسلامي عمل شفت مائة وثمانون درجة من إعادة الفهم.

** المفكر الكبير د.نصر اسمح لي أن نبدأ حوارنا بالسؤال الراهن حول الإسلام والفكر الإسلامي الذي يشغلك وتبحث له عن إجابة؟** أبحث عن إجابة لكل ما ذكرته لك، كيف نبدع مقاربة للنص المؤسس القرآن، النص الأول، أهم نص في الثقافة العربية والإسلامية، بعيدا عن كل الأسئلة التي فرضتها علينا السياقات، وزيفت هذه الأسئلة عن المعنى الديني، أنا أدرك الآن أن هناك القرآن وما بعد القرآن، ما بعد القرآن يعني التراث التفسيري والتأويلي سواء كان لاهوتيا أو قانوني، أو كذا، أو كذا، الذي عمل ما يسمي ببنية الفكر الإسلامي، أنا درست ذلك نقديا بشكل جيد، هل يمكن أن نميز القرآن وما بعد القرآن؟ لأن رأيي أن القرآن تجزأ، تبعثر، يعني علماء الكلام أخذوا منه اللاهوت، الفقهاء أخذوا منه القانون، المتصوفة أخذوا منه الأخلاق والروح، كل جماعة أخذت منه جزءا وفي العصر الحديث هذه الأجزاء انفصلت، يعني في تاريخ التراث الإسلامي كان يمكن أن ترى الفقيه متصوفا ومتكلما في ذات الوقت، لكن إنتاجه الفقهي إنتاج مدرك للبعد الأخلاقي والروحي، تجد الفيلسوف فقيها مثل ابن رشد، ففلسفة ابن رشد مدركة للبعد القانوني في الإسلام علي الرغم مما يمكن أن نسميه تشظي النظر إلي القرآن من زوايا مختلفة لكن كان هناك رؤية عامة، تحكم هذا التشظي، هذه الرؤية العامة غابت تماما الآن، يعني فقيه اليوم لا يعرف أي شيء عن الأخلاق ولا عن التجربة الصوفية، التجربة الصوفية ملعونة عند فقهاء هذه الأيام، كفر، بل إن أحد الفقهاء المعاصرين كفر الشيعة، بما يعني أن التجزؤ وصل إلي حدود قصوى، أنا أتصور، وقد اشتغلت في هذا السؤال وقضايا أخرى جزئية، أننا لو عدنا إلي القرآن ما قبل، يعني لو أستطيع الاقتراب من القرآن بعيدا عن عيون المتكلمين وعيون الفقهاء وغيرهم، ولا أعني ببعيد أن تكون خاليا تماما من أي شئ، وهناك شغل في هذا "القرآنك" و"القوسط قرآنك" , و"البري قرآنك"، ما قبل القرآن، القرآن، ما بعد القرآن، سوف تكتشف مناطق من الترابط، أولا مسألة القرآن كنص محكم وفيه وحدة، هذا ما قلته في التسعينيات وعوقبت عليه، الآن أنظر إلي القرآن كخطاب، خطابات، وهذا منظور آخر لا ينكر النص، لأن كل خطاب في النهاية سيكون نصا، لكن هناك خطابات لها سياقات مختلفة، لو عدنا إلي القرآن ما قبل التشظي يمكن أن نستعيد الوحدة القرآنية، وهذا ما أشتغل عليه الآن، كم سيستغرق؟ هل سيكفي العمر؟ خاصة وأنني أعمل لوحدي وليست هناك مؤسسة، هناك ملايين تنفق علي الإعجاز العلمي لكن ليست هناك مؤسسة في العالم الإسلامي كله اسمها دراسات قرآنية بمعني دراسة القرآن وليس تعليمه، فمؤسسات تعليم القرآن كثيرة منها أقسام الدراسات الإسلامية لكنها لا تدرس الإسلام وإنما تعلمه، وهناك فرق كبير جدا جدا بين التعليم والدراسة، فالذي أحاول عمله هو دراسة للقرآن ودراسة للتراث الإسلامي