الثلاثاء، 31 مارس 2009

.أحمد الخليل : سلسلة دراسات في التاريخ الكردي( الحلقة الثالثة عشرة )
الكرد في لوحات مشوَّهة ومريبة (2)عباقرة أم متعبقرون؟
العبقرية مستويات، والعباقرة درجات.
والمنتظر من العباقرة- في أيّ عصر كانوا، وإلى أيّ جغرافيا انتموا- أن يكونوا بناة حضارة، ودعاة خير، وصنّاع نفع لشعوبهم وأوطانهم على أقل تقدير؛ هذا مع ثقتنا التامة بأن العبقري الأصيل يرفض الوقوع في أسر النرجسية؛ سواء أكانت ذاتية، أم قبلية، أم طائفية، أم دينية، أم قومية؛ إن العبقريّ الأصيل إنسانيّ النزعة، كونيّ الانتماء، سامي المبادئ، نبيل المواقف، نقيّ الفكر، عفيف اللفظ، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وهو بعد هذا صُلب العزيمة، قوي الشَّكيمة، لا يسيل لعابه لترغيب، ولا يستسلم لترهيب.
ومن الإجحاف الزعم أن ثقافاتنا- نحن شعوب غربي آسيا- تفتقر إلى العبقرية وتخلو من العباقرة، لكن من الإجحاف الزعم، في الوقت نفسه، أن العباقرة الأصلاء هم الذين أداروا دَفّة القيادة الثقافية في منطقتنا العريقة هذه معظم العصور، بلى، إنهم لم يكونوا خلف دفّة القيادة، ليس لأنهم جهلوا أهمية القيام بتلك المهمة الجليلة، ولا لأنهم تهرّبوا من القيام بمسؤولياتهم التاريخية الكبرى، وإنما لأنهم حُوربوا بقسوة حتى في لقمة عيشهم، ورُجموا بأشنع الاتهامات (انحراف، فسق، زندقة، ضلال، كفر، إلحاد، علمانية، عمالة، إلخ)، تمهيداً لإزاحتهم من قيادة المجتمع، ورميهم في طيّ النسيان.
ومن هم الذين كانوا وراء إعلان الحرب على العباقرة الأصلاء؟
إنهم العباقرة المزيفون، إنهم المتعبقرون، أجل، ألم يكن غربي آسيا موطن الأنبياء الأصلاء والأنبياء الكذبة (المتنبئين)؟ فلا عجب إذاَ أن يظهر فيه (المتعبقرون) ليقطعوا الطريق على (العباقرة)، ولا عجب أيضاً أن يبرز فيه أدعياء الثقافة، ليسحبوا البساط من تحت أقدام المثقفين الأصلاء.
وكان موضوع الصراع بين العباقرة والمتعبقرين- وما زال- هو رسم المسارات الأساسية لحياة المجتمعات، وتأسيس مرتكزات الانطلاق نحو تلك المسارات، وترسيخ القيم والقواعد والتشريعات التي تساعد على تحقيق الأهداف المنشودة. وكان أعتى سلاح في أيدي المتعبقرين هو السيطرة على الجماهير (العامّة)، واحتكار إنتاج الرأي العام (رأي الشارع بلغة عصرنا)، والاستئثار بتسويقه وتصديره وإعادة إنتاجه، وتغييب العباقرة وأفكارهم المتنوِّرة.
وليس هذا فحسب، بل إن المتعبقرين كانوا يحوّلون (الرأي العام) الجماهيري إلى عصا، يُظهرون رأسها من تحت العباءة لكل حاكم (خليفة، سلطان، ملك، رئيس) يقف عقبة في طريق مشاريعهم، فما كان من الحاكم- والحال هذه- إلا أن ينزل عند رغباتهم، ويفعل ما ينال به رضاهم، ويوافق على اتخاذ إجراءات قاسية، بل قاسية جداً أحياناً، ضد العباقرة الأصلاء.
وأكتفي في هذا الصدد بذكر مثال واحد، هو موافقة السلطان صلاح الدين الأيوبي على الحكم بقتل الفيلسوف الكردي شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي (يحيى بن حَبَش بن أَمِيرَك) سنة (586 هـ) في حلب، نزولاً عند فتوى من بعض الفقهاء، اتفقوا على صياغتها، ورفعوها إلى السلطان، وأفتوا فيها بضرورة قتل السهروردي، "وقالوا: إن بقي هذا فإنه يُفسد اعتقاد الملك [= الملك الظاهر حاكم حلب، وهو ابن صلاح الدين]، وكذلك إن أُطلق فإن يُفسد أيَّ ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك ". (ابن أبي أَصَيْبِعة: عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء، ص 167).
والحق أن العباقرة الحقيقيين كانوا أقدر الناس على كشف ألاعيب المتعبقرين، وحسبي أن أذكر رأي واصِل بن عَطاء (كبير زعماء المعتَزلة توفي سنة 131 هـ = 748 م) في المتعبقرين وأدعياء الثقافة، فقد وصفهم بقوله:
" ما اجتمعوا إلا ضَرّوا، ولا تفرّقوا إلا نَفَعوا. فقيل له: قد عرفنا مَضَرّة الاجتماع، فما مَنفعة الافتراق؟ قال: يَرجِع الطَّيّانُ إلى تَطْيِينه، والحائكُ إلى حِياكته، والمَلاّحُ إلى مِلاحته، والصائغُ إلى صياغته، وكلُّ إنسان إلى صناعته، وكلُّ ذلك مَرْفِق [= ما يُنتفَع به] للمسلمين، ومَعونة للمحتاجين ". (الجاحظ: رسائل الجاحظ، ج 1، ص 283).

آليات وإبداعات
ومن أسوأ التقاليد التي أرساها المتعبقرون (أدعياء الثقافة) في ثقافات غربي آسيا هو الدوران في فلك الأنانية (النرجسية) إما ذاتياً، أو قبلياً، أو طائفياً، أو دينياً، أو قومياً، وتوظيف جميع وسائل الدعاية الممكنة؛ لإخراج تلك النرجسية في صورة الفكر الأسمى والأنقى والأتقى.
ومعروف أنه حيثما تكن النرجسية تكن (ثقافة إلغاء الآخر)، إنهما شريكان لا يفترقان، ونهجان متكاملان، وهكذا تقع المجتمعات، عبر الأجيال المتتابعة، ضحية الفكر الظلامي المنغلق، الفكر الذي لا يرى معتنقه إلا نفسه، أو قبيلته، أو طائفته، أو دينه، أو قوميته؛ ومتى كان فكر كهذا مدخلاً إلى السلم والحضارة؟
وكان المتعبقرون (أدعياء الثقافة) في غربي آسيا بارعون في اختراع الآليات الكفيلة بتكريس مشاريع الإلغاء والإقصاء، وهي آليات كثيرة يأخذ بعضها برقاب بعضها الآخر، وتتمثّل فيها أقصى درجات الدهاء والمكر، والتلبيس والتدليس، ودسّ السمّ في الدسم، واستغفال القارئ والسامع، وتجاهل حقائق الجغرافيا والتاريخ، وتعميم السذاجة في التفكير، والجلافة في التعبير، والبلادة في الشعور، والمؤسف أنها تصل أحياناً إلى الدركات السفلى من الانحطاط والنذالة. :وإليكم بعض تلك الآليات 1. التعميم: هو إحلال الجزء محل الكل، والفرع محل الأصل، وصرف الانتباه عن القضايا الكبرى، وإشغال الناس بالتَّفاهات. 2. التعتيم الكلي: تُمارَس هذه الآلية ضد (الآخر) حينما يصبح مجردُ ظهوره عائقاً في طريق تكريس مشاريع الإلغاء. 3. التعتيم الجزئي: هنا يسمح القائمون على مشروع الإلغاء بالإفراج عن بعض المعلومات؛ وهم لا يفعلون ذلك إلا عندما يعجزون تماماً عن تغييب (الآخر) تغييباً كاملاً. 4. التضخيم: تُمارَس هذه الآلية لتكبير الجانب السلبي في حياة شخص أو جماعة، كي يُلفت الانتباه أكثر، ويُشغِل عن التنبّه إلى الجوانب الإيجابية الكثيرة. 5. التقزيم: تُمارَس هذه الآلية لتصغير الجوانب الإيجابية في حياة شخص أو جماعة، كي تبدو محدودة جداً بل تافهة، لا تستحق الوقوف عندها. 6. التمويه: تُمارَس هذه الآلية حينما يكون شخصان أو أكثر مشتركان في صفة ما غير حميدة، وَفق معايير قادة مشاريع الإلغاء، لكن يُراد ذكر أحدهما، وتغييب الآخر، فيُذكَر الأول، ويوضَع الآخر تحت بند العبارة الغامضة: (وغيره). 7. التحريف: هو إخراج الشخص أو الحدث من سياقه التاريخي الطبيعي، والحكم عليه بعد وضعه في ساق تاريخي آخر مصطنَع. 8. التدليس: هو آلية تقديم السمّ في الدَّسَم، والجِدّ في قالَب الفكاهة، والمزاعم في صور الحقائق، والأكاذيب في صور المعلومات الموثَّقة. 9. التخليط: هو خلط الأمور بعضها ببعض، وتقديمها على شكل كومة هائلة من المعلومات المتراكبة المتناقضة، فيصبح المراقب عاجزاً عن متابعة أمرٍ ما من البداية إلى النهاية، للخروج بنتائج محدّدة. 10. التبشيع: تجلياتها متشعّبة ومتشابكة، أبرزها: التفسيق والتكفير (دينياً)، والعمالة والخيانة (وطنياً)، والطعن في النسب والسلوك (اجتماعياً). 11. الخداع اللغوي: هذا في حد ذاته مدخل إلى كثير من فنون الدس والتضليل، تارة عبر استعمال التعبيرات الزئبقية، وأخرى عبر التجسير اللغوي المفتعَل، وثالثة عبر توظيف المجاز والرمز. هذه بعض آليات قادة مشاريع الإلغاء، وهي في تجدد وتطوير مستمر، وكان المتعبقرون يتفنّون في اختراعها بما يتناسب مع كل مكان وزمان وموقف، ونجد في الأجيال الحديثة من المتعبقرين أناساً سبقوا بأشواط أساتذتهم القدامى في هذا الميدان، وهم على أُهْبة الاستعداد لأن ينقضّوا على كل اختراع علمي حديث، كي يوظّفوه بمهارة في مشاريعهم الألغائية.
ولنعد إلى استكمال إبداعات صنّاع (ثقافة الإلغاء) في ميدان تشويه صورة الكرد عبر مصادر التراث الإسلامي، فتلك الإبداعات عامرة بجميع أصناف الآليات المشار إليها، وقد ذكرنا بعضها في الحلقة السابقة، وإليكم بعضها الآخر.
تهمة اللصوصية

اللصوصية من لوازم المجتمعات قديماً وحديثاً، وليس من الغرابة في شيء أن يكون في المجتمع الكردي لصوص، وتعالوا نتفحّص ما جاء في بعض مصادر التراث الإسلامي حول وصف الكرد باللصوصية.
قال ابن الأثير في أحداث سنة (421 هـ): " وفيها ظهر مُتلصِّصةٌ ببغداد من الأكراد، فكانوا يَسرِقون دوابَّ الأتراك، فنَقل الأتراك خيلَهم إلى دُورهم، ونقل جلال الدولة [= من ملوك بني بُوَيْه] دوابّه إلى بيت في دار المملكة ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 9، ص 410). نقل ابن كَثير الخبر السابق نفسه في حوادث سنة (421 هـ)، فقال: "وفيها دخل خَلقٌ كثير من الأكراد إلى بغداد، يَسرِقون خيلَ الأتراك ليلاً، فتحصّن الناس منهم، فأخذوا الخيول كلَّها حتى خيلَ السلطان ". (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 28). وأورد الحافظ الذَّهَبي أيضاً الخبر نفسه ضمن أحداث سنة (421 هـ) قائلاً: "وتجدَّد دخول الأكراد اللصوص إلى بغداد، فأخذوا خيول الأتراك من الإصْطَبْلات ". (الذهبي: العِبَر في خَبر مَن غَبَر، ج 2، ص 243). تعليق: من الآليات العريقة في (ثقافة إلغاء الآخر) الغرب آسيوية تقديم المعلومة بعيداً عن المعطيات البيئية والاجتماعية والسياسية المواكبة لها، وقد أدرجنا هذه الآلية تحت بند (التحريف)، والحقيقة أن هذه سُنّة متّبَعة وبإصرار إلى يومنا هذا، سواء أكان في مجال التعظيم والتمجيد، أم في مجال التبشيع والتنديد.
وهذه الآلية بارزة في الخبر السابق، فالمهم بالنسبة إلى صانع الخبر وراويه هو إلباس الكرد صفة اللصوصية، وليس من الضروري أن يعرف الناس الأسباب التي جعلت بعض الكرد يسطون على خيول الأتراك والبُوَيْهيين في بغداد عاصمة الخلافة ومركز السلطة.
والحقيقة التاريخية التي حاول صانع الخبر السابق إخفاءها هي أن العسكر الأتراك المرتزقة كانوا قد تغلغلوا في مفاصل الدولة العباسية منذ عهد ابن أختهم الخليفة المُعتصِم بالله (ت 227 هـ)، وصاروا العنصر الآمر الناهي في الدولة، وخاصة بعد أن دبّروا مؤامرة راح ضحيتها الخليفة المتوكِّل على الله سنة (247 هـ).
وفي سنة (334 هـ = 946 م) سيطر البُوَيْهيون (شعب آرياني موطنه جنوبي بحر قزوين) على بغداد عاصمة الدولة العباسية، وأزاحوا الأتراك عن سُدّة السلطة، وصار الأتراك مرتزقة في الجيش البُوَيْهي، وراح البويهيون وصنائعهم الأتراك ينهبون ثروات البلاد، ويسومون الناس ألوان الظلم والقهر.
ومعروف أن الكرد (قومٌ أولو بأس شديد)، وهم في مقدّمة الثائرين على الظلم والقهر حيثما كان؛ وهذه حقيقة تؤكدها مواقف كثيرة قديماً وحديثاً، وكان من الطبيعي- والحال هذه- أن تدور حرب شرسة بين الكرد الثائرين والسلطات الحاكمة حينذاك، وكان من جملة ما يقوم به الكرد في هذا الصراع هو السطو على خيول الجنود الترك والبويهيين في عُقْر دارهم، ومركز سلطتهم (العاصمة بغداد)، لاستخدامها في القتال ضدهم.
قال ياقوت الحموي يذكر إنجازات أبي الحسين علي بن أحمد الراسبي (ت 301 هـ): " وكان يتقلّد مِن حَدّ واسِط إلى حَدّ شَهْرَزُور، وكُورَتَيْن من كُوَر الأَهْواز جُنْدِيسابُور والسُّوس، وبادَرايا وباكَسايا، وكان مبلغُ ضمانه ألفَ ألف [= مليون] وأربعمائة ألف دينار في كل سنة، ولم يكن للسلطان معه عاملٌ غيرَ صاحب البريد فقط؛ لأن الحَرْث والخَراج والضِّياع والشجر وسائر الأعمال كان داخلاً في ضمانه، فكان ضابطاً لأعماله، شديد الحماية لها من الأكراد والأعراب واللصوص ". (ياقوت الحَمَوي: مُعْجَم البلدان، ج 2، ص 548). تعليق: واسط مدينة بناها والي بني أُميّة على العراق الحجّاج بن يوسف الثَّقَفي، بناها بين الكوفة والبصرة، وانتهى بناؤها سنة (86 هـ)، وكان الكرد اللُّور (الفَيْلي) يقيمون في تلك المنطقة قبل الإسلام، إلى جانب شعوب جنوبي بلاد الرافدين القديمة، وأما شهرزور فكانت منطقة واسعة، تقع في الجِبالَ بين أربِيل وهَمَذان (أگبتانا عاصمة الميديين)، ويُفهم أن منطقة سليمانية في إقليم كردستان- العراق كانت جزءاً من منطقة شهرزور، وقد دمّر تيمورلنك مدينة شهرزور، واكتُشفت في السنوات الأخيرة تحت سد دَرْبَنْدي خان، لكن يد التنقيب لم تعمل فيها (انظر القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، ص 398. ومأمون بك بن بيگه بك: مذكرات مأمون بك بن بيگه بك، المقدمة، ص 17 ، هامش 19).
والذي يهمّنا في هذا الخبر هو أن المنطقة الممتدة من واسط إلى شهرزور كانت مسكونة بالكرد بشكل كلي في الشمال، وبنسب مختلفة كلما اتجهنا جنوباً، ومرّ أن الكرد كانوا يرفضون الانصياع التام للسلطات الحاكمة، وكانوا يقومون بما يشبه حروب العصابات، فأدرجهم مثقفو السلطة مع الأعراب في خانة اللصوص، ومرة أخرى كانت الأسبقية للأكراد كما هي العادة.
قال أبو الفتح المُطَرِّزي (ت 616 هـ): " الكلبُ الكُرديّ مَنسوبٌ إلى الكُرد؛ وهم جيلٌ من الناس لهم خُصُوصيّةٌ في اللُّصوصيّة". (المُطَرِّزي: المُغَرِّب في ترتيب المُعَرِّب، ص 404). تعليق: كل شيء كردي هو غير عادي، حتى لصوصيتهم لها خصوصية.

تهمة الإفساد وقطع الطرق
وردت في مصادر التراث الإسلامي روايات متعددة حول قيام الكرد بالاضطرابات ضد السلطات الحاكمة، وقطع الطرق، وإحداث الفوضى:
قال البَلاذُري: " وحدّثني المَدائني وغيره أن الأكراد عاثوا وأفسدوا في أيّام خروج عبد الرحمن بن محمّد بن الأَشْعَث. فبعث الحجّاجُ عمرَو بن هانئ العَبْسي في أهل دمشق إليهم، فأَوْقعَ بهم، وقتل منهم خلقاً ". (البلاذري: فتوح البلدان، ص 319). قال ابن الأثير في أحداث سنة (148 هـ): " وفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن بَرْمَك، وسبب ذلك أنه بلغه انتشار الأكراد بولايتها وإفسادهم، فقال: من لها؟ فقالوا: المُسَيَّب بن زُهَير، فأشار عُمارة بن غمرة [= الصواب: عُمارة بن حَمْزة] بخالد بن بَرْمَك، فولاّه وسيّره إليها، وأحسنَ إلى الناس، وقَهر المفسِدين وكَفّهم، وهابه أهل البلد هيبةً شديدة مع إحسانه إليهم". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 5، ص 585). قال ابن الأثير في أحداث سنة (231 هـ): " وفيها قَدِم وَصِيف التركي من ناحية أصْبهان، والجبال، وفارس، وكان قد سار في طلب الأكراد؛ لأنهم كانوا قد أفسدوا بهذه النواحي، وقَدِم معه نحوٌ مِن خمس مائة نفس فيهم غِلمان صغار، فحُبِسوا، وأُجيز بخمسة وسبعين ألف دينار، وقُلِّد سيفاً ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 7، ص 23). قال ابن كثير في أحداث سنة (433 هـ): " فيها شَعَثَت [= أثارت الاضطرابات] الأكراد ببغداد؛ لسبب تأخّر العطاء عنهم ". (ابن كثير: البداية والنهاية، ج 12، ص 49). قال ابن الأثير في أحداث سنة (445 هـ): " وفيها، في شَوّال، وصل الخبر إلى بغداد بأن جمعاً من الأكراد وجمعاً من الأعراب قد أفسدوا في البلاد، وقطعوا الطريق، ونهبوا القرى، طمعاً في السلطنة بسبب الغُزّ، فسار إليهم البَساسِيري [= قائد تركي] جَرِيدة [= خيّالة]، وتبعهم إلى البَوازِيج [= بلدة تقع عند مصبّ نهر الزاب الأسفل في دجلة]، فأوقع بطوائف كثيرة منهم، وقتل فيهم، وغَنِم أموالهم، وانهزم بعضهم فعبروا الزاب عند البوازيج، فلم يُدركهم، وأراد العبورَ إليهم، وهم بالجانب الآخر، وكان الماء زائداً، فلم يتمكن من عبوره، فنَجَوا ". (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ج 9، ص 596). تعليق: هذه الأخبار تؤكد فشل السلطات الحاكمة في إخضاع الكرد، وفرض السيطرة المطلقة عليهم، وهذه حقيقة معروفة منذ عهد الإمبراطورية الآشورية، فقد كانت المشكلة التي تؤرّق الملوك الآشوريين هي إخضاع الميديين (أجداد الكرد)، وعجزوا عن ذلك رغم جميع الحروب التي شنّوها عليهم، ورغم جميع أصناف البطش والتنكيل، بل إن نهاية الإمبراطورية الآشورية كانت على أيدي الميديين.
وكي نضع الأخبار السابقة في سياقها التاريخي الصحيح يكفي أن نستخدم عبارة (ثاروا، ثورة، ثائرون) بدل كلمة (أفسدوا، إفساد، مفسدون)، فالكرد كانوا يعبّرون عن رفضهم للخضوع بالتمرد والثورة وشنّ حروب العصابات، وكان من مصلحة السلطات الحاكمة أن تسمّيهم قطّاع طرق ومفسدين، وكان من مهمّة مثقفي السلطة، على اختلاف تخصصاتهم، أن يتلقّفوا تلك التوصيفات، ويروّجوها عبر الروايات.
روى الشاعر الشيعي المعروف دِعْبِل بن علي الخُزاعي (ت 246 هـ = 860 م) قصة طويلة خلاصتها أنه ألف قصيدة، منها قوله (مدارسُ آياتٍ خَلَتْ من تلاوةٍ)، وقصد بها الإمام الشيعي علي بن موسى الرضا في خُراسان، إذ كان وليّ عهد الخليفة المأمون، فأنشده القصيدة، ثم أنشدها أمام المأمون أيضاً، وقبض منهما أموالاً كثيرة، إضافة إلى ما وهبه له علي بن موسى الرضا من ثياب خاصة به، كما أن الوزير ذا الرئاستين وهبه بِرْذَوْناً أصفر ومِمْطراً (ثوب لاتقاء المطر) من حرير، وقال دِعْبِل: " وقضيت حاجتي، وكَرَرْت راجعاً إلى العراق، فلما صرت ببعض الطريق، خرج علينا أكراد يُعرَفون بالماريخان [= الصواب: مازنْجان، وهم قبيلة من الكرد في حدود أصفهان]، فسلبوني، وسلبوا القافلة، وكان ذلك في يوم مَطِير. فأعتزلت في قميص خَلَق [= عتيق بالٍ] قد بقي علي، وأنا متأسّف- من جميع ما كان عليّ- على القميص والمِنشَفة اللذين وهبهما لي علي بن موسى الرضا، إذ مرّ بي واحد من الأكراد، وتحته البِرْذَوْن الأصفر الذي حملني عليه ذو الرياستين، وعليه المِمْطَر الخَزّ، ثم وقف بالقرب مني، وابتدأ ينشد: (مدارس آيات)، ويبكي. فلما رأيت ذلك، عَجِبت من لصّ كرديّ يتشيّع، ثم طمعت في القميص والمِنشفة. فقلت: يا سيّدي، لمن هذه القصيدة ؟ فقال: ما أنت وذاك؟ ويلك!
فقلت له: فيه سببٌ أُخبرك به.
فقال: هي أشهر من أن يُجهَل صاحبُها.
قلت: فمن هو؟ قال: دِعْبِل بن علي الخُزاعي، شاعر آل محمد، جزاه الله خيراً.
فقلت له: يا سيدي، أنا - والله - دِعْبل، وهذه قصيدتي.
فقال: ويلك! ما تقول؟ فقلت: الأمرُ أشهرُ من ذلك، فسَل أهل القافلة، تُخْبَرْ بصحة ما أخبرتك به.
فقال: لا جَرَمَ- والله- لا يذهب لأحد من أهل القافلة خِلالة [= عود تُخَلَّل به الأسنان. وبالضم خُُلالة: تمرة] فما فوقها.
ثم نادى في الناس: من أخذ شيئاً فليردّه على صاحبه، فردّ على الناس أمتعتهم، وعليَّ جميع ما كان معي، ما فَقَد أحدٌ عِقالاً.
ثم رحلنا إلى مأمننا سالمين.
قال راوي هذا الخبر عن دِعْبِل: فحدّثتُ بهذا الحديث عليَّ بن بَهْزاد الكردي، فقال لي: ذاك - والله - أبي الذي فعل هذا ". (التَّنُوخي: الفَرَج بعد الشدة، ج 4، ص 227- 230).
تعليق: واضح من سياق الخبر أن بهزاد الكردي كان من الكرد الشيعة المثقفين الناقمين على السلطات الحاكمة، الثائرين عليها، وهو ليس مثقف فقط، بل إنه رجل شديد الموالاة لآل البيت، حتى إنه ردّ لأصحاب القافلة جميع أموالهم، مكافأةً لدعبل على قصيدته في مدح أهل البيت، وإن مثقفاً وشيعياً مخلصاً مثله لا يكون قاطع طريق بقصد السلب والنهب، وإنما يكون قائد حرب عصابات ضد السلطات الجائرة.
نقل التَّنُوخي خبر قاطع طريق كردي يُفتي فقال: " وحدّثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسِطي السَّرّاج، المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: كنت مسافراً في بعض الجبال، فخرج علينا ابن سَباب الكردي، فقطع علينا، وكان بزِيّ الأمراء، لا بزيّ القُطّاع. فقربت منه لأنظر إليه وأسمع كلامه، فوجدته يدل على فهم وأدب، فداخلْته فإذا برجل فاضل، يروي الشعر، ويفهم النحو، فطمِعت فيه، وعمِلت في الحال أبياتاً مدحته بها. فقال لي: لستُ أعلم إن كان هذا من شعرك، ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعراً الساعةَ، لأعلم أنك قلته، وأنشدني بيتاً. قال: فعملت في الحال إجازة له ثلاثة أبيات. فقال لي: أيُّ شيء أُخذ منك؟ لأردَّه إليك.
قال: فذكرت له ما أُخذ مني، وأضفت إليه قماش رفيقين كانا لي.
فردّ جميع ذلك، ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها، كيساً فيه ألف درهم، فوهبه لي.
قال: فجزيته خيراً، ورددته عليه.
فقال لي: لِم لا تأخذه؟ فوَرَّيت [= أخفيت] عن ذلك.
فقال: أحب أن تَصْدُقني.
فقلت: وأنا آمن؟
فقال: أنت آمن.
فقلت: لأنك لا تملكه، وهو من أموال الناس الذين أخذتَها منهم الساعة ظلماً، فكيف يَحِلّ لي أن آخذه؟
فقال لي: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب اللصوص؛ عن بعضهم قال: إن هؤلاء التجار خانوا أماناتهم، ومنعوا زكاة أموالهم، فصارت أموالهم مستهلكة بها، واللصوص فقراء إليها، فإذا أخذوا أموالهم - وإن كرهوا أَخْذَها - كان ذلك مباحاً لهم، لأن عَين المال مستهلَكة بالزكاة، وهؤلاء يستحقون أخذ الزكاة بالفقر، شاء أرباب الأموال أم كرهوا.
قلت: بلى، قد ذكر الجاحظ هذا، ولكن من أين يُعلَم أن هؤلاء ممن استَهلكت أموالَهم الزكاةُ ؟ فقال: لا عليك، أنا أُحضر هؤلاء التجار الساعة، وأُريك بالدليل الصحيح أن أموالهم لنا حلال.
ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار، فجاؤوا.
فقال لأحدهم: منذ كم أنت تَتْجُر في هذا المال الذي قطعنا عليه؟
قال: منذ كذا وكذا سنة.
قال: فكيف كنت تُخرج زكاته؟ فتَلَجْلَج [= تردّد في الجواب]، وتكلم بكلام مَن لا يعرف الزكاة على حقيقتها فضلاً عن أن يُخرجها.
ثم دعا آخر، فقال له: إذا كان معك ثلثمائة درهم وعَشَرة دنانير، وحالتْ [= مرت] عليك السنة، فكم تُخرج منها للزكاة ؟ فما أحسن أن يجيب.
ثم قال لآخر: إذا كان معك متاع للتجارة، ولك دَين على نفسَين، أحدهما مليء والآخر مُعْسِر، ومعك دراهم، وقد حال الحَوْل [= مرت سنة] على الجميع، كيف تُخرج زكاة ذلك؟ قال: فما فَهِم السؤال، فضلاً عن أن يتعاطى الجواب.
فصرفهم، ثم قال لي: بانَ لك صِدقُ حكاية أبي عثمان الجاحظ؟ وأن هؤلاء التجار ما زكَّوا قطُّ؟ خذ الآن الكيس.
قال: فأخذته، وساق القافلة لينصرف بها.
فقلت: إن رأيتَ أيها الأمير أن تَنفُذ [= ترسل] معنا مَن يُبلغنا المأمِن، كان لك الفضل.
ففعل ذلك ". (التنوخي: الفرج بعد الشدة، ج 1، ص 231 - 233).
تعليق: واضح من سياق الخبر أن ابن سَباب الكردي كان أيضاً من زعماء الكرد المثقفين، فالرجل بصير بتمييز الشعر، عليم بكتابات الجاحظ، خبير بفقه الزكاة، والأرجح أنه كان من الناقمين على السلطات، الثائرين عليها، وكانت عملية قطع الطرق جزءاً من حرب العصابات ضد السلطة.
قال ابن جُبَيْر يصف رحلته إلى مناطق آمِد (ديار بكر) في شمالي كردستان: " فتمادى سيرُنا أوّلَ الظهر، ونحن على أُهبة وحَذَر من إغارة الأكراد الذين هم آفة هذه الجهات من الموصل، نِصِيبين مدينة دُنَيْصِر [= دُُنَيْسِر، وهي قُوج حَصار]، يقطعون السبيل، ويسعون فساداً في الأرض، وسكناهم في جبال منيعة على قرب من هذه البلاد المذكورة، ولم يُعِن اللهُ سلاطينَها على قَمْعهم وكَفِّ عادِيَتهم، فهم ربما وصلوا في بعض الأحيان باب نِصيبين، ولا دافعَ لهم ولا مانعَ إلا الله عز وجل ". (ابن جُبَيْر: رحلة ابن جُبَيْر، ص 215). تعليق: ابن جبير رحّالة أندلسي ( ت 614 هـ = 1217 م)، وقد بدأت رحلته إلى الشرق سنة (578 هـ = 1182 م)، وانتهت سنة (581 هـ = 1185 م)، وزار خلالها مصر، وبلاد الشام، والحجاز، والعراق، وشمالي كردستان (جنوب شرقي تركيا حالياً)، ويُفهَم من سياق الخبر أن القائمين على تنسيق ملفّات الشعوب في الذاكرة العرب آسيوية سرعان ما فتحوا لابن جُبَير الملفّ الكردي، وقدّموا له الكرد بالصورة البشعة المتّفق عليها؛ لذلك ما إن وطئت قدما ابن جُبَيْر المناطق الكردية حتى عاش في خوف دائم من (الأكراد).
ولست أنفي أنه كان بين الكرد من يقطع الطرق حينذاك، وأوضحنا الأسباب التي كانت تقف وراء ذلك، لكن الغريب أن الصورة التي قُدّمت لابن جُبير كانت شديدة القتامة، والغريب أيضاً أن رحلة ابن جُبَيْر كانت خلال عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي، وقد عبّر في عدّة مواطن من كتابه عن إعجابه الشديد بعدالة صلاح الدين، وأشاد بمنجزاته الاقتصادية والعلمية، لكن يبدو أن القائمين على الملفّ الكردي حينذاك كانوا حريصين على طَمس كل ما هو مضيء في سيرة الكرد، وتضخيم ما هو سلبي فقط.
قال ياقوت الحموي في حديثه عن (شَهْرَزُور): " إلا أن الأكراد في جبال تلك النواحي على عادتهم في إخافة أبناء السبيل، وأخذ الأموال والسرقة، ولا ينهاهم عن ذلك زَجْرٌ، ولا يصدُّهم عنه قتلٌ ولا أَسْرٌ، وهي طبيعة في الأكراد معلومة، وسَجِيّةٌ جباهُهم بها مَوْسومة، وفي مُلَح الأخبار التي تُكْسَعُ [= تُمحى] بالاستغفار أن بعض المتظرّفين قرأ قوله تعالى: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونفاقاً) فقيل له: إن الآية (الأعرابُ أشدُّ كُفراً ونفاقاً) [التوبة: 97]. فقال: إن الله- عزّ وجلّ- لم يسافر إلى شَهْرَزُور، فينظرَ إلى ما هنالك من البَلايا المخبّآت في الزوايا ". (ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 3، ص 426 – 427). تعليق: أكثر ما يثير الانتباه هو الحكم العام الذي أصدره ياقوت بحق الكرد جميعاً، إلى درجة أنه جعل صفات النهب والسلب والسرقة طبيعة فطرية في الكرد. وكعادة غيره من المتحاملين على الكرد لم يجد حَرَجاً في توظيف الآية القرآنية الخاصة بالأعراب لخدمة مشروع أبلسة الكرد، وبرّر ذلك بأن الاستغفار كفيل بمحو الآثام الناجمة عن التلاعب بالآية.
أن استغفر ياقوت سرعان ما ذكر ما يتناقض تماماً مع حكمه المطلق السابق، فقال: " وقد خرج من هذه الناحية من الأجِلَّة والكُبَراء، والأئمّة والعلماء، وأعيان القضاة والفقهاء، ما يفوت الحَصر عنُه، ويعجز عن إحصائه النَفَسُ ومدُّه، وحسبُك بالقضاة بني الشَهْرَزُوري جلالةَ قَدْرٍ، وعِظَمَ بيتٍ، وفخامةً فعلٍ، وذكرِ الذين ما علمتُ أنّ في الإسلام كلِّه وَلِيَ من القضاة أكثرَ مِن عِدّتهم مِن بيتهم، وبنو عَصْرُون أيضاً قضاةٌ بالشام، وأعيانُ مَن فرّق بين الحلال والحرام منه، وكثيرٌ غيرُهم جداًَ من الفقهاء الشافعية، والمدارس منهم مملوءة ". (معجم البلدان، ج 3، ص 427).قال أبو دلف: دخلتُ على الرشيد وهو في طارِمة [= بيت كالقبة من خشب] على طِنْفِسة، ومعه عليها شيخٌ جميلُ المنظر [هو العبّاسُ بن الحسين بن عُبَيد الله بن العبّاس بن علي بن أبي طالب]؛ فقال لي الرشيد: يا قاسم، ما خَبَرُ أرْضك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، خَرَابٌ يَبَاب، أَخْرَبَها الأَكراد والأعراب. فقال قائل: هذا آفةُ الجبل، وهو أفسده ". (الحُصْري القَيْرَواني: زهر الآداب وثمر الألباب، ج 1، ص 90 - 91). وذكر ابن حَمْدون الخبر ذاته في كتابه (التذكرة الحمدونية، ج 2، ص 197)، ويُفهم منه أن إقطاعة أبي دُلَف كانت تقع في منطقة إقليم كردستان – العراق. قال ابن حَمْدون:" كان رُكن الدولة أبو الحسن علي بن بُوَيْه ضعيف السياسة على خيرٍ فيه وكَرَمِ طبع، فخرجتْ له بغال للعلف، فقطع عليها اللصوص وأخذوها، فلما أُخبر بالحال قال: كم كانت البغال؟ فقيل: ستة. قال: واللصوص؟ قيل: سبعة. قال: الآن يختلفون، كان ينبغي أن تكون البغال سبعة حتى تَصِحّ قسمتُها بينهم. وذُكر له أكراد قطعوا الطريق، فقال: وهؤلاء الأكراد أيضاً يحتاجون إلى خبز ومعيشة ". (ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 1، ص 464). تعليق: إن الملك البُوَيهي وضع النقاط على الحروف، وصرّح بما أخفاه الآخرون؛ فـ (الأكراد) الذين كانوا يمارسون قطع الطرق لم يكونوا يفعلون ذلك من باب الهواية واللهو، وإنما لأن سبل الحياة كانت قد سُدّت في وجوههم، ولم يبق أمامهم سوى فرض الغرامات على التجار الذين كانوا يضطرون إلى المرور من جبال كردستان، لنقل البضائع شرقاً وغرباً.
إن افتقار المناطق الجبلية إلى الأراضي الصالحة للزراعة، وتهميش المناطق الكردية بشكل عام، وسيطرة السلطات المركزية على حركة التجارة، ونقمتها على الكرد؛ هذه العوامل جميعها قذفت بالكرد بين براثن الفاقة والحرمان، ووضعتهم أمام خيار وحيد؛ هو الاعتماد على القوة في تحصيل أسباب الحياة، ومقارعة السلطات، وتقاسم الثروة معها.

تهمة النفاق والكفر
قال الآبي:" ولما دخل الأكراد مدينة السلام مع أبي الهَيْجاء، واجتازوا بباب الطاق، قال بعض المشايخ من التجّار: هؤلاء الذين قال الله تعالى في كتابه: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً). فقال له إنسان: يا هذا، إنما قال الله (الأعرابُ). قال الشيخ: يا سبحان الله! يقطع علينا الأكراد، ونكذب على الأعراب "؟! (الآبي: نثر الدر، ج 2، ص 114). تعليق: بنو حَمْدان قبيلة عربية من قبيلة (تَغْلِب)، وأبو الهَيْجاء هو عبد الله بن حمدان، والد سيف الدولة الحمداني (أمير حلب وتوابعها في القرن الرابع الهجري)، وقد بدأ الحمدانيون تأسيس إمارتهم في الموصل، وكانت العلاقة وثيقة بينهم وبين بعض الكرد، وتتمثّل على نحو خاص في المصاهرة؛ إذ كانت أمهات بعض كبار أمراء بني حمدان وزوجاتهم كرديات، ومن ذلك أن أم أبي الهَيْجاء عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة كردية، وكانت أم سيف الدولة كردية، ويبدو أن زوجته كانت كردية أيضاً، وكانت من مَيّافارقِين (فارقِين، في شمالي كردستان). (انظر أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، ص 111، ص 297).
وحينما سيطر العسكريون الأتراك على مقاليد السلطة في بغداد، ولا سيّما بعد أن دبّروا مقتل الخليفة المتوكل على الله، كان أمراء بني حمدان من جملة الثائرين عليهم، وظل الأمر كذلك حينما سيطر البويهيون على مقاليد الأمور، وكان ثمة تعاون عربي كردي ضد البويهيين والعسكر الأتراك، وواضح من الخبر أن الكرد كانوا يشكلون قوة قتالية هامة في جيش أبي الهيجاء. (انظر أحمد الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، ص 178- 179، و ص 183- 184).
وإذا أخذنا هذه المعطيات بالحسبان عرفنا النوايا الخافية وراء نقمة تجار بغداد على الكرد خاصة، وجرأتهم على اتهام الله – عزّ وجلّ- بالخطأ، فالمفروض– حسب رأيهم- أن تكون الآية بصيغة (الأكراد أشدّ كفراً ونفاقاً)، وليس بصيغة (الأعراب أشدّ كفراًَ ونفاقاً).
قال الزَّمَخْشَري:" سُمع رجل يقرأ: الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً. فقيل له: ويحك، الأعرابُ. فقال: كلُّه يقطع الطريق ". (الزَّمَخْشَرِي: ربيع الأبرار وفصوص الأخبار، ج 1، ص 364). قال ابن حَمْدُون:" سُمع رجل يقرأ: (الأكرادُ أشدُّ كُفراً ونِفاقاً). فقيل له: ويحك! (الأعرابُ). قال: كلُّهم يقطعون الطريق ". (ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، ج 9، ص 419). تعليق: هكذا نجد أن الخبر الذي يشتمل على تبشيع صورة الكرد يصبح مادة رائجة للطُّرفة، وهي مادة مقبولة للتداول ليس عند الأدباء من أمثال الآبي وابن حمدون فقط، وإنما عند بعض مشاهير مفسّري القرآن، من أمثال الزَّمَخْشَري (فارسي) صاحب تفسير (الكشّاف).
سئل ابن تَيْمِيَة بشأن جواز قتال التتار الذين أظهروا الإسلام، وقاتَلوا المسلمين، فقال: " وأمّا هؤلاءِ فدخلوا فيه وما التزموا شرائعَه. وقِتالُ هذا الضَّرْب واجبٌ بإجماع المسلمين، وما يَشُكُّ في ذلك مَن عَرَفَ دينَ الإسلام وَعَرَفَ حقيقةَ أمرِهم؛ فإنّ هذا السِّلْمَ الذي هم عليه ودِينَ الإسلامِ لا يَجتمِعان أبداً. وإذا كان الأكرَادُ والأعرابُ، وغيرُهم مِن أهل البوادي الذين لا يلتزمون شرِيعةَ الإسلام، يَجِبُ قِتالُهم، وإنْ لَمْ يَتَعَدَّ ضَرَرُهم إلى أهل الأَمْصارِ، فكيف بهؤلاء "؟! (ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 6، ص 425). تعليق: مرة أخرى نجد ابن تيمية (شيخ الإسلام!) يستخدم التعميم عندما يتعلق الأمر بـ (الأكراد)، أما العرب فاختار منهم (الأعراب) فقط، وحكم بأن الأكراد والأعراب لا يلتزمون شريعة الإسلام، وأفتى بوجوب قتالهم، ولم يشر إلى الأتراك مع أنهم كانوا بداة مثل الأكراد والأعراب.
تساؤلات ...تلك كانت جولة مع صورة الكرد في بعض كتب التراث الغرب آسيوي في العهود الإسلامية، ولست ممن يؤمنون بأن ثمة شعباً من الملائكة يمشي على الأرض، ولست أيضاً ممن يؤمن بأن ثمة شعباً اختاره الله منذ الأزل، وفضّله على جميع خلق في كل مجال، وأعتقد اعتقاداً جازماً بأن لكل شعب في هذا العالم صفاته التي يختلف بها عن غيره من الشعوب، ومن تلك الصفات ما هو إيجابي وما هو سلبي، وأعتقد أيضاً أن صفات كل شعب هي نتاج البيئة الطبيعية والظروف التاريخية التي تحيط به.
وذلك هو رأيي في الكرد أيضاً، فهم مثل بقية الشعوب، فيهم الصالح والطالح، والعالم والجاهل، والمحسن والمسيء، والفاضل والأفضل، والرديء والأردأ، لكن ما لم أستطع أن أجد له مبرراً منطقياً وموضوعياً هذه الحملة القاسية التي شُنّت على الكرد في مصادر التراث الإسلامي، إنها حملة شارك فيها المؤرخ، والجغرافي، وشيخ الإسلام، والإمام، والأديب، والشاعر، والرحّالة.
وما لم أجد له مبرراً منطقياً وموضوعياً أيضاً هذه الأحكام المطلقة التي تضع الكرد كل مرة في واحدة من خانات التبشيع، وهذا التعميم الذي يحلّ فيه الجزء محلّ الكل، وهذا التوظيف الغريب لبعض الآيات القرآنية في تشويه صورة الكرد، دونما أيّ حرج أو التزام بحدود التقوى.
ويبقى أخيراً أن نبحث عما وراء هذه الأقوال والروايات من حقائق، وأن نفتّش في أغوار الذاكرة الغرب الآسيوية عن هذه الظاهرة العجيبة؛ ظاهرة (أبلسة الكرد)، وقد سمّيناها أكثر من مرة (مشروع أبلسة الكرد)، ومن الضروري أن نسعى للوصول إلى إجابات عن أسئلة عديدة، منها:ما هي الأهداف الستراتيجية لمشروع أبلسة الكرد؟ - ومتى تأسس هذا المشروع؟ - ومن هم المؤسسون الأوائل؟ - ومن هم المنتفعون من هذا المشروع؟ - وما هي الآليات الموظّفة في هذا المشروع؟ - وما هي انعكاسات هذا المشروع على الكرد؟ - وما هي آثاره على مستقبل شعوب غربي آسيا؟
المراجع
الآبي: نثر الدُّر، كتاب إلكتروني، موقع الوَرّاق، http://www.alwarraq.com
ابن الأَثير: الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1979.
أحمد عدوان: الدولة الحمدانية، المنشأة العربية، ليبيا، الطبعة الأولى،1981.
أحمد محمود الخليل: تاريخ الكرد في الحضارة الإسلامية، دار هيرو، بيروت، 2007.
ابن أبي أصيبعة: عيون الأنباء في طبقات الأطباء، دار الثقافة، بيروت، 1981.
البَلاذُري: فتوح البلدان، تحقيق رضوان محمد رضوان، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978.
التَّنُوخي: الفرج بعد الشدة، تحقيق عبود الشالجي، دار صادر، بيروت، 1978.
ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية، كتاب إلكتروني، موقع الإسلام، http://www.al-islam.com
الجاحظ: رسائل الجاحظ، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1979.
ابن جُبَيْر: رحلة ابن جبير، دار صادر للطباعة والنشر، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1964.
الحُصْري القَيْرَواني: زهر الآداب وثمر الألباب، تحقيق علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1970.
ابن حمدون: التذكرة الحمدونية، تحقيق إحسان عباس، وبكر عبّاس، دار صادر، بيروت، 1996.
الذَّهَبي: العِبَر في خَبر مَن غَبَر، تحقيق أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1985.
الزَّمَخْشِري: ربيع الأبرار وفصوص الأخبار، تحقيق الدكتور عبد المجيد دياب، والدكتور رمضان عبد التوّاب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1992.
القزويني: آثار البلاد وأخبار العباد، دار صادر، بيروت، 1960.
ابن كَثِير: البداية والنهاية، دار ابن كثير، بيروت، 1965.
مأمون بگ بن بيگه بك: مذكرات مأمون بگ بن بيگه بك، تعريب محمد جميل الروژبياني وشكور مصطفى، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد، 1980.
المُطَرِّزي: المُغَرِّب في ترتيب المُعَرِّب، دار الكتب العلمية، بيروت، 1980.
ياقوت الحَمَوي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990.

ليست هناك تعليقات: